Friday, February 16, 2024

إقتفاء أثر وضّاح شرارة: خروج الأهل على الدولة الملِّية الحديثة

 

إقتفاء أثر وضّاح شرارة:

خروج الأهل على الدولة الملِّية الحديثة

 

زهير غزّال

 

(محاضرة ألقيت في مركز عصام فارس في الجامعة الأمريكية في بيروت يوم الخامس من أيار ٢٠٢٢ تكريماً لوضّاح شرارة.)

 

رحلتنا مع وضاح شرارة بدأت بالقرب من هنا في مبنى الوست هول المجاور في بدايات الحروب الأهلية الملبننة، أي النصف الثاني من السبعينيات من القرن الماضي.

 

المناسبة كانت معرضاً مصغّراً لبعض دور النشر اللبنانية ومن بينها دار الطليعة البيروتية.

 

حملت الدار يومها كتابين لوضاح شرارة. الأول « حروب الاستتباع » وفي طياته سرديات وسير عن السنين الأولى للحروب الملبننة. والاستتباع مفهوم خلدوني يتتبع المسارات الأهلية للجماعات الخاضعة للدولة (أيضاً بمفهومها الخلدوني) أو الخارجة عنها. في كلتا الحالتين تستتبع الجماعة الأهلية الأقوى، والتي غالباً ما تقوم بموقع سلطوي، جماعة أو جماعات أخرى دون التمكّن من «تفكيك» الأواصر الداخلية، كعلاقات القرابة، لهذه الجماعات المُستتبعة والمُلحقة عُنوةً. فما يستوقف شرارة، رغم البعد الزمني بين القرون الوسطى الإسلامية والحاضر اللبناني بحروبه الأهلية المتعددة الأطراف، هو الوجه الثابت لمفهوم الاستتباع الخلدوني. إذ لا رغبة سياسية أو ثقافية عند الجماعات الأهلية اللبنانية لطموحاً أشد وطأةً من الاستتباع الخلدوني. وقد يشكّل العَصَب الديني والثقافي الرابط الأساسي الذي يمنع، أو على الأقل يحدّ، من «تخطٍّ» للاستتباع الى عمليات «دمج» سياسية من خلال إلحاق الأفراد خارج طوائفهم بكوادر الدولة السياسية والقانونية الحديثة. وانعدام قدرة كهذه يراها شرارة في أعماله اللاحقة والمتأخرة منتشرة في الأفق السياسي الشرق أوسطي (أو شرق المتوسط تحديداً) ضمن تسمية «الدولة الملّية الحديثة» أو الدولة العصبيّة الريعية. في كلتا الحالتين، يبدو أن عصبيّة ابن خلدون مدخل لا بد منه للاستتباع وحروبه الأهلية المُضمرة. كما أن في المجتمعات الحديثة، أي ما بعد انهيار السلطنة العثمانية، تساهم العصبيّة الريعية في تسلّطها على أجهزة الدولة، مع حروب الاستتباع، تمهيداً لا بد منه لانسلاخ الدولة عن المجتمع (أو المجتمع المدني، إن جازت العبارة في المفهوم التاريخي والأنثروبولوجي الأوروبي الأصل)، وتصبح الدولة بذلك طرفاً في النزاعات الأهلية المُستتبعة. سنأتي لاحقاً في القسم الأخير من المداخلة لهذه التسمية المليّة للدولة الحديثة من منظور «الاقتصاد» أو «الاقتصاد السياسي» إن جاز التعبير. والسؤال هو التالي: بما أن «الاقتصاد» بمفهومه الحديث لا يخرج عن نطاق الدولة الحديثة، أو الدولة – الأمة، فهو بطبيعته خاضع لسياسة الدولة وسيطرتها على أرضية معينة وجماعاتها الأهلية، وله «أولوية» على المستويات الأخرى، أكانت عقائدية أم ثقافية، فهل يُسهِم الاقتصاد الليبرالي الحديث بفك أواصر استتباع الجماعات الأهلية التقليدية ويحولها الى قِيَمْ أخرى لها دلالات اقتصادية؟ نرى من جانبنا إنه من الصعب التكهُّن بـ «اقتصاد أهلي» يواكب مسارات الجماعات الأهلية، أكانت حزبية أم دينية، خارج أطر الدولة الحديثة واقتصادها وماليتها وعُملتها الوطنية. إضافة، لا وجود لاقتصاد حديث خارج الليبرالية الاقتصادية التي تُخضع واقعها للجماعات الأهلية وتُجبرها على التأقلم. نرى أن الليبرالية الاقتصادية، وهو المنهج غير المُعلن للدولة اللبنانية، يُخضع ضرورةً حروب الاستتباع ودولة حزب الله، كما يراهما شرارة، الى السياسة الاقتصادية للدولة وواقع السوق، مما يساهم حتماً في تفكك الأواصر الأهلية التقليدية الى مكونات اجتماعية أخرى غير واضحة المعالم. ولكن الدولة – الأمة ليست الأفق الهيغيلي المُحتّم للعصبيات الأهلية والمليّة التي تتغذّى من مفاهيم الدولة وممارستها المالية والاقتصادية، وبنفس الوقت تؤسّس كل على حدة «اقتصادها» ضمن ممارسات ملّية وعقائدية خاصة بها. وقد يكون النموذج الشرق أوسطي الأكبر الحرس الثوري الإيراني الذي يسيطر مباشرة على نحو ٦٥ بالمائة من الاقتصاد، أكان من صناعات عسكرية، كيمائية، نفطية، منزلية، أو الكترونية، وهو بذلك نموذجاً عن الخروج عن الدولة والمُساهم الأساس في تقويضها وزعزعة نفوذها. وما حزب الله اللبناني سوى نموذجاً آخر للخروج على الدولة وتكوين «اقتصاده» الخاص به وبأهله ومتأقلماً مع الانهيار التام للعملة الوطنية. فالعملة الوطنية، القابعة في قعر العملات، أفرزت «عُمُلات» متعدّدة، طابعها «سياسي»، بمعنى أنها صادرة عن سياسات خارج الدولة، وقد تكون مُستتبعة لخارج إيراني أو عجمي. فـ«قروض» حزب الله «الحسنة» تحوّل العملة الوطنية المُنقرضة حُكماً الى ممارسات أكثر أمانةً وملائةً أُسُسِها العملة الخضراء وذهب المحتاجين للقروض.

 

والكتاب الثاني الذي شكّل لنا مدخلاً لكتابة شرارة هو «في تكوين لبنان الطائفي: خط اليمين الجماهيري»، الذي يربط بين الحروب الملبننة ومسارها التاريخي العثماني ثم الفرنسي والاستقلالي ضمن سيرورة الطائفة السياسية وتحوُّلها من الملَّة العثمانية، التي استوعبها الغرب الأوروبي كـ «وطن»، الى مجموعات دينية فردية تتمتع بحقوق قانونية واقتصادية وسياسية خاصة بها وبتكوينها الداخلي. ويُشكّل التحوّل من الملّة الى الطائفة بداية نظام المتصرفية في جبل لبنان والتمهيد للإستقلال الجغرافي والسياسي تحت راية نظام كولونيالي تقاسمته بريطانيا مع فرنسا ضِمن خرائط سايكس وبيكو الشهيرة وتوزيعها لبلاد الشام مُقايضةً إلى «مناطق» نفوذ تجمع بين الجغرافيا البشرية والملّة والطائفة. والطوائف المسيحية عموماً، أكانت مارونية – كاثوليكية أو أرثوذكسية مشرقية، على خلاف مثيلاتها الإسلامية، سنّية أم شيعية، أفقها السياسي هو الدولة الحديثة بجميع مكوّناتها، كما سيزعم شرارة في دراساته اللاحقة. فلا «خروج عن الدولة» ومؤسساتها عند الطوائف المسيحية، وأحد العوامل التي أدّت الى «عدم الخروج» هو «خط اليمين الجماهيري» الذي نتج من تطورات أعطت دوراً بارزاً للكنيسة المارونية منذ القرن الثامن عشر والتي أرخت سيطرتها على أعيان المقاطعات ومقاطعجيها وتوزيع الإتاوات وعلاقتهم بالفلاحين. وهي علاقات «التزام» شخصية مغايرة لعلاقات الأعيان وفلاحيهم التي سيطرت على مدن بلاد الشام وأريافها في القرون العثمانية، وأعطتها طابعاً سياسياً مميزاً كانت الكنيسة المارونية مصدراً رئيساً له، وساهمت في الهجرة من الجبل الى المدينة وانفتاح مدن الساحل الى تجارة بحر المتوسط في القرن التاسع عشر. قد يبدو الانفتاح المسيحي على الغرب بديهياً، وإن أتى متأخراً، ومن عناصر البداهة عدم تَقيّد المسيحيين بالشريعة الإسلامية رغم مساهمة فقهاء مسيحيين في جبل لبنان بأمور الفقه والشريعة. إلّا أن الدراسات التاريخية لا ترى فوارق تُذكر في «الحياة المادية» (وفق تسمية فرنان بروديل) بين المسيحيين والطوائف الإسلامية الأخرى حتى نهاية القرن الثامن عشر. ومن العوامل التي أسهمت في الانشقاق التاسع عشري بين المسيحيين والطوائف الأخرى هو توافر عناصر مادية وروحية وذهنية شاركت في الرضوخ لتجارة الغرب ورأسماليته والانفتاح للقوانين والنُظم الغربية. وربما الأكثر غموضاً في تبريرات كهذه هو «الروح الرأسمالية» وانصياع بعض الطوائف لها دون الأخرى. فهل للروح الرأسمالية المُبكرة مساهمة ما لعدم خروج المسيحيين عن أفق الدولة الحديثة؟ نعود مرة أخرى الى حلقة الاقتصاد السياسي كرابط جوهري للأهليات المدينية الحديثة وما تفرضه على حروبها الداخلية والخارجية. المشكلة النظرية والمنهجية الأساسية التي تطرحها مقولة عدم التباين بين الطوائف لقدرة التقيّد بمسار الدولة الحديثة بمفهومها الغربي، أي الدولة – الأمة، يطرح علامات استفهام إضافية حول «أصول» هذا التباين، أكانت سياسية أم اقتصادية المنشأ. نود هنا الرجوع الى مقولة المؤرخ الاقتصادي التركي تيمور كوران حول «الانشقاق (الاقتصادي) الكبير» بين الغرب الأوروبي والمجتمعات الإسلامية عامة سببه عدم قدرة الشريعة في المُضي قدماً بإصلاحات جوهرية في تشريعات التعاقد والدَيْن بين الأفراد والشركات والمؤسسات (نُشر الكتاب عام ٢٠١١ ضمن مجموعة جامعة برينستون)، ناهيك عن قدرة هذه المجتمعات لإنشاء «ديون عامة» أسسها المالية سندات وأسهم يتم تداولها بين التجار والعامة والمصارف (وكلها تقنيات مالية أتت متأخرة بطبيعة الحال عند العثمانيين والقَجَر). نرى من جانبنا أن المشكلة الاقتصادية أعمق بكثير من قدرة الشريعة على التكيّف والتأقلم بالمعطيات الجديدة لأسواق شرق المتوسط وآسيا عموماً في رأسماليتها الأولية، أي القرن السادس عشر الطويل، من ١٤٥٠ الى ١٦٠٠، وفق تسمية فرنان بروديل. فمن هذه الصعوبة (أو المراوغة وعدم القدرة) الاقتصادية يمكننا طرح مشكلة نمط الدول، بمفهومها الخلدوني، من مملوكية وعثمانية وقجرية، بعلاقاتها ونسيجها الاجتماعي، وهي علاقات أسسها «خارجية» واستتباعيه من توازن عصبيّات مِلّية وجمع إتاوات «خَراجية» تفرضها على «رعاياها» و«سكانها». ومع انهيار النظم الإمبراطورية بعد الحرب الأولى، انتقلت هذه المجتمعات الى أطر أكثر حداثة ومرونة، أي مفهوم الدولة – الأمة الأوروبي، ضمن «حدود» الأمة (القلقة) التي جرى ترسيمها من قبل القوى الكولونيالية كاختصار شديد لمسار سياسي كثير التعرّج. فما ينعته وضّاح شرارة في أعماله المتأخرة بـ «الدولة الملّية الحديثة» هو بالفعل آليات سيطرة دول حديثة النشأة على مجتمعات «قديمة» بمراتبها وطبقاتها الملّية العثمانية وحديثة النشأة في آن بطبقاتها الاقتصادية وأطُرها البيروقراطية من مدنية وعسكرية وميليشياوية. لا داعي هنا، من الناحية المنهجية البحتة، بالتسرُّع بمقارنات غربيّة توحي بعلاقات «مبتورة» لهذه الدول مع مجتمعاتها. نرى من زاوية علوم الاجتماع ضرورة وصف آليات التسلّط الخارجية أكانت دينيّة أو عقائدية أو قانونية مع التحكُّم بالأسس الاقتصادية التي تفرض نظماً داخلية قاسية على آليات التحكُّم. (ومثالاً على ذلك، في الأسبوع الثالث من شباط ٢٠٢٣، ما سُمّي بـ«فوضى» حسن نصرالله، وتلويح الأمين العام بها أمام «شعبه» وأعدائه، التي هي في أساسها، وفق بعض الصحف اللبنانية، «فوضى اقتصادية» مصدرها واشنطن، مقارنة بفوضى جبران باسيل السياسية والرئاسية. فلا «كلفة» لباسيل تجاه «شعبه» لأن جماهيره تتموّل من مصادر شتى لا ارتباط مباشر للتيّار بها، وهو جمهور يتفرّد في قراراته، على خلاف جماهير حزب الله، وهي قرابة الربع مليون فرد، التي تشكّل «كلفة» وعبأً، حسب قول رئيس كتلة «الوفاء للمقاومة» محمد رعد، قوامها مئتي مليون دولار في «الفترة القليلة الماضية» (الشهرية؟)، كما ورد في النهار البيروتية في ٧ شباط ٢٠٢٣.)

 

والكتابان («حروب الاستتباع» و «في تكوين لبنان الطائفي») هما ضمن المسار الأول للكاتب، وهي الفترة التي سنرمز اليها بمسيرة السبعينيات، بعيد حصول شرارة على الدكتوراه من السوربون (عن الخطاب السياسي والديني لعبد الرحمن الجبرتي وانقلاب التاريخ الإسلامي العثماني المملوكي إثر الحملة الاستكشافية الفرنسية)، وبداية تدريسه في قسم علم الاجتماع في الجامعة اللبنانية (الواقع في شارع عبد الله المشنوق من طرف والوحدة الوطنية من ذيله الآخر)، ومقالات جريدة النهار البيروتية المخضرمة ومقالات أخرى مُطوّلة في دراسات عربية الصادرة أيضاً عن دار الطليعة.

 

شكّلت مسيرة السبعينيات خروجاً عن انتماء الكاتب الحزبي في منظمة العمل الشيوعي (ومنظمات شيوعية صغيرة أخرى) في الستينات وتدريسه في التعليم الثانوي الرسمي. أثناء دردشة خاصة وصف لنا شرارة التجربة السياسية على مدى ثلاثة عشرة سنة بانها مَضيعة للوقت وملهاة وجودية. نرى من جانبنا ان التجربة الشيوعية في إطارها الملبنن طرحت للكاتب مشكلة تهميش جماعات أهلية معينة لا قدرة لها لأسباب تاريخية خاصة بها الانتماء الى أهليات ومدنيات أوسع أكانت حزبية أو اجتماعية أو برلمانية. فالشيوعية اللبنانية، كالأحزاب الأخرى التقدمية وغير الانعزالية (وفق تسمية كمال جنبلاط)، هي خارجة على الأهل وعلى الدولة معاً. وللخروج الطوباوي مزايا وجودية ونظرية لجيل من الشبّان والشابّات أتعبهم الانتماء الأهلي ومتطلباته. إذ لا يتطلّب الخروج «معرفة» بالتكوين الأهلي للمجتمعات ومؤسساتها الحقوقية والقضائية والاقتصادية. فلطوباويته اكتفاءً ذاتياً ورابطاً بقوى إقليمية وعالمية أسطورية، ومقاومة لليبيرالية الاقتصادية وسلطتها الكولونيالية المحلية الممثلة بالدولة – الأمة.

 

فمعظم الجماعات والمنظمات غير البرلمانية أسهمت في الدمج في الشارع ضمن مبادرات وحركات سمّيت بالجماهيرية (أو حركات الشارع) وحملت في طياتها لغات وإيديولوجيات خارج المركّبات والمنازعات الأهلية والعشائرية. كما أنها مستبعدة من التمثيل النيابي خاصة عند السنة والشيعة، ولغاتها هي لغات الخارج الإقليمي الجماهيري والشعبي. "فهي تكونت حاملة لواء فئات اجتماعية يستبعد النظام النيابي والأهلي تمثيلها، أو مشاركتها السياسية، على صفتها الاجتماعية والمدنية…" (خروج الأهل على الدولة ١٨٩). وهذا الاستبعاد القسري أسهم تأسيس نواة الجماعات والمنظمات اليسارية في المرحلة الاستقلالية الأولى، وتطوّرها الى منظمات مسلّحة أغلبها شيعيّة إبان الحروب الأهلية بين ١٩٧٥ و١٩٩٠.

 

فالتجربة الشيوعية (وغيرها من بعثية وقومية سورية وناصرية وفلسطينية) تمثّل نمطاً من الخروج عن متطلبات التمثيل النيابي (أي الالتحاق الضمني بمؤسسات الدولة والاعتراف بتعدد سلطاتها وهرميتها)، إذ لديها قوة تجريدية عمومية إقليمية وشمولية أكثر من محلية، وخروجاً آخر عن لغة الأهل والعشيرة والطبقة والمهنة والتعليم وأحياء المدينة. فحركات وتجمعات الشارع والجماهير، وهي تعمل ضمن هوامش ضيّقة، تنكفئ في محور "الصورة – اللغة"  وترضخ "لتقسيم المجتمع دوائر منفصلة ومغلقة (السياسي، الاجتماعي، المدني، الدولة…)…" (خروج ١٩٠). والصورة – اللغة تستقطب المستبعدين من الطوائف والأهل كالقادة المسيحيين الذين تعاقبوا على رأس الحزب الشيوعي اللبناني طوال سبعة عقود. ويصح ذلك أيضاً في الحزب السوري القومي الاجتماعي (خروج ١٩١ هـ ٨).

 

تبدأ مسيرة شرارة ما بعد الشيوعية بمفهوم حروب الاستتباع الخلدوني.

 

والاستتباع في اللغة: واصل الشيء وحافظ على سيرورته، واستمر فيه وحافظ على حسن سياقه.

وفي معناه الخلدوني أن تستتبع عصبية مسيطرة عصبية أخرى خاضعة لها دون إلحاقها بها ودمجها وفك أواصرها، أي دون متطلبات اللُحمة الاجتماعية كما نراها اليوم في النُظم الاجتماعية والتمثيلية الحديثة. فتبقى العصبية المُستتبعة خاضعة للأقوى منها مع الحفاظ على بنيتها الداخلية. يمنع الاستتباع « التسلط » الثقافي والطبقي (والديني) وخلق آليات لُحمة لمجتمعات مدنية، أي نواة للمجتمع المدني، كما رآها أنطونيو غرامشي الإيطالي والشيوعي.

 

ويتوهّم المُستتبَع، كما يزعم ابن خلدون في مقدمته، أنّه انتسب فقط (أي إنه انتسب الى العصبية الأقوى دون الاندماج بها، أو إنه ينتسب أصلاً الى عصبيته وأهله دون الإدراك بموجبات الاستتباع ومتطلباته) فيربأ بنفسه عن أهل عصبيّته ويرى الفضل له عليهم وثوقا بما ربّي فيه من استتباعهم وجهلا بما أوجب ذلك الاستتباع من الخلال الّتي منها التّواضع لهم والأخذ بمجامع قلوبهم فيحتقرهم بذلك فينغّصون عليه ويحتقرونه.

 

فللاستتباع مستويات متعددة: داخل العصبية نفسها ومن ناحية أخرى خارجها بين مواقع العصبيات الأخرى.

 

لحروب الاستتباع أهمية خاصة خلا عدم التواضع والاحتقار: إذ تخلو ديناميكية الاستتباع من إمكانية اللُحمة الاجتماعية الشاملة التي تصبو في مجرى المجتمع المدني وحقوقه السياسية والقانونية في مواجهة سلطة الدولة الأمة الخارجة عن المذهبية.

 

الحلقة الثانية التي تأخذ من حروب الاستتباع ملجأ لها تأتي في الأعمال الوسطى للكاتب أي فترة التسعينيات، وهو الوقت الذي تعرّف البعض به على أسلوب وضاح شرارة من مقالات جريدة الحياة التي أصبحت آنذاك بأيدي سعودية، مما أتاح تمددها الى خارج إطارها اللبناني التقليدي.

 

يستوقفنا هنا كتاب صُغيّر نشر عام ١٩٩٩ تحت عنوان "خروج الأهل على الدولة. ربيع ١٩٧٣: فصل من تأريخ الحروب الملبننة".

 

والكتاب، رغم الفارق الزمني، هو متابعة للسلم الأهلي البارد الذي نشر عام ١٩٧٩ وهو الأضخم من حيث الحجم والعمل الأرشيفي في الصحافة والمجلس النيابي اللبنانيين. يأخذنا السلم الأهلي الى المحاولة الشهابية لبناء دولة قومية شاملة خارج العصبيات الأهلية في سلك مشترك. أما خروج الأهل فهو يردّ التجربة الى ربيع ١٩٧٣ وأزمة المخيمات الفلسطينية ونهاية الشهابية كمقدمة للحروب الملبننة التي ستدوم طيلة خمسة عشر عاماً.

 

يبدو "خروج الأهل على الدولة" للوهلة الأولى من الأعمال الصغيرة للمؤلّف رغم أنه يحمل في طياته المحور الأساس لكافة أعماله على مدى نصف قرن ونيّف. وهو يأتي تتويجاً لنضوج في الكتابة (وتعثراً في بعض الأحيان) اختبر فيه شرارة خطاب الأمة القلة العاملية بين الحربين العالميتين (من أرشيف مجلة العرفان العاملية) وتجلّي تجربة حزب الله اللبناني إثر تهالك الأطر الشيعية التمثيلية التقليدية كنتيجة مباشرة للحروب الأهلية وتهميش الجماعات اليسارية من لبنانية وقومية سورية وفلسطينية. فقلق الأمة العاملية الشيعية مردّه الى تفتُّت وتخبُّط خطاب ما سمي بـ «عصر النهضة الليبرالي» و«الفكر العربي الحديث» (وفق تسمية ألبير حوراني التي أصبحت مرجعاً يقتدى به شرقاً وغرباً) الى مجموع خطابات لا قدرة لها على لُحمة المجتمعات الأهلية بطوائفها ومِللها المتنافرة أصلاً وتحويلها الى مجتمعات مدنية تسلُّطية. (والتسلُّط المدني أو المديني غير الاستتباع الخلدوني.)

 

يتمحور خروج الأهل على الدولة حول ثلاثة مفاهيم مترابطة حُكماً ولذا لا يمكن التحكُّم بها منفصلة: الخروج، الأهل، والدولة.

 

الأهل: رابط الأهل ليس حصراً ما يُعرّف به أنثروبولوجياً بعلاقات القرابة، أي أنماط الزواج وتوزيع الأملاك والإرث. لا يوجد عند الكاتب مفهوم للأهل يدور حول ما يسمى بعلاقات القرابة العربية أو الإسلامية عامة أو الأفضلية لزواج بنت العم والتزاوج الداخلي التي هي الشغل الشاغل لعلم الأناسة. إذ لا يمكن ردّ الأهل والأهلية الى بنية تحتية موحّدة كالقرابة أو الطبقة. فالأهل والأهلية من البنى الاجتماعية المتعددة الأطراف تتناول "الحوادث الاجتماعية على وجه أفعال مركبة ومتنازعة" (بيروت ١٩). كما لا يمكن ردّها الى خطابات وقيم إيديولوجية عامة تتحكّم بالأهل والطائفة. فللأهلية مستويات متعددة تتحكّم بالسلوك اليومي للأفراد والجماعات دون بُنى واضحة المعالم. وتخضع هذه البنى التقليدية والحديثة الى آليات وصف أدبية وأنثروبولوجية وسوسيولوجية متعددة الأطياف من الكاتب وهي شغله الشاغل في أسلوبه الخاص الخارج عن أعراف علم الاجتماع ولغاته.

 

نرى هذه الأفعال المركبة في كتاب صدر عام ١٩٨٧ تحت عنوان "المدينة الموقوفة. بيروت بين القرابة والإقامة"، وهي مبنية في وصفها للمدينة على أبحاث قام بها طلاب الماجستير في علوم الاجتماع ولم تنشر في معظمها. الجامع هنا هو أهلية الأحياء البيروتية كأفعال مركبة ومتنازعة، كتأخر سن زواج البنات، وغلبة المكانة الاجتماعية على تعريف المهنة، وتقدم مرتبة الأولاد على مرتبة الأهل في بعض الحركات السياسية الدينية، واتصال الهجرة بروايتها المتعددة المصادر. كلها تصبّ في مجرى "انفكاك الإقامة في المدينة". والانفكاك ظاهر أكثر في الضواحي الجنوبية الشيعية على وجه التخصيص "من موجبات الإقامة المفترضة". فالأهل كالـ "فيء" يثبّت مرجعيةً ننو اليها.

 

عند صدور المدينة الموقوفة كنت يومها محاضراً في كلية الآداب والعلوم في الجامعة الأمريكية. زميلان في قسم السيسيولوجيا في مبنى مجاور من هنا قالوا لي أن الكتاب "تعدٍ على الكار" حسب تعبيرهم. والكار هنا مادة السيسيولوجيا التي تم الاعتداء عليها عَمداً أي على ما يبدو لم يحترم أعرافها وسننها. والعمد أقوى من القصد في الجنائيات.

 

ملاحظة على أسلوب وضاح شرارة الذي يصفه البعض بالصعب وفي غاية التعقيد. هنالك تعمداً للخروج والانشقاق من لغات وأعراف متعاهد عليها، كالخروج من اللغة السيسيولوجية المتعارف عليها، أو الخروج من اللغة الصحافية عند ممارسة الاستقصاء الصحافي. والخروج أكثر من التعدي على الكار إذ هو أكثر راديكالية. الأسلوب الأدبي هو خروج الفرد عن الأهل والجماعة والتفرُّد بلغة هدفها وصف الخروجَيْن، أي خروج الأهل عن الدولة، وخروج الفرد الأدبي عن أهله وأعرافهم لعدم قدرته على الرضوخ. ثم خَلْق لغة جامعة (أدبية بالدرجة الأولى، مادتها الأدبيات العربية عبر العصور أكثر من علوم الاجتماع) خارج المهنيات المتعارف عليها. فكل حادثة اجتماعية تستوي على وجه أفعال مركبة ومتنازعة ولا يمكن تحجيمها وتوزيعها لغات مهنية لإرضاء أصحاب الكار. المنهج، إذا كان هناك من منهج، هو في آلية الوصف ولغاتها وليس خارجها. قد يشعر القارئ بإرهاق من النص الذي بين يديه لافتقاره لـ «مرجعية» علمية واضحة تُحدّد إنتمائاً للمسارين الأدبي والعلمي. نرى هذه المُعضلة في أول عمل روائي لشرارة، «الأمس اليوم» (نوفل ٢٠٢٢)، حيث الراوي (وضاح شرارة) يفتقد لمرجعية يُهديها لقارئ اليوم الذي يتتبّع أحاسيس شرارة طفلاً (الأمس) بين بنت جبيل وضواحي بيروت الجنوبية. فراوي اليوم يترك للقارئ الصبور والمتصبّر خلق مرجعيته الخاصة إن رغب ذلك لتشفير رموز الأمس ومعانيها.

 

في "خروج الأهل على الدولة"، وفي العقد بعد المدينة الموقوفة، نرى تحفظاً علي الأهلية (١٥٤، هـ ١٠). ومعنى التحفظ على الأهلية أن الحرب هي حروب كثيرة لم تقع بين "الأهل" اللبنانيين فحسب. "فمعنى التحفظ هو التنبيه على تضمن ”الأهل“ هؤلاء شطراً راجحاً من غير اللبنانيين والمواطنين، أفراداً وسياسة. فهم جزء من ”الأهل“ على معنى الرابطة الأهلية والعصبية العربية والإسلامية؛ وليسوا ”أهلاً“ على معنى الرابطة السياسية والوطنية…" وهذا مثالاً لتعدد الأهلية نسبة لمرجعية أهلية تقع حصراً على إرهاصات الرابطة السياسية والوطنية اللبنانية، وأخرى تتعدّاها الى مرجعية أوسع أكانت عربية أو فلسطينية أو إسلامية وتقوم بدور العاجز على التأقلم محلياً وتستقطب من ليس لهم مكاناً في الأهلية الأولى. الاّ أن نموذجي الأهلية، إن صحّ التعبير، ليسا منفصلين عن العصبيات الطائفية المحلية والموزّعة على أحياء المدن وشوارعها وزواريبها.

 

يحيا مفهوم الأهل في الحروب الملبننة من خارج عروبي، سياسي وإداري، وإصرار "الحزب" العروبي والإسلامي على استغراق الأهلية صفة الحروب اللبنانية من جهة، وعلى داخل أهلي لبناني من جهة أخرى. وللخارج وجوه كثيرة ومتعددة، من فلسطينية وسورية وعراقية وليبية وإيرانية فقهية واثني عشرية، ومحاربة الكولونيالية والليبرالية والانضواء تحت مظلة اقتصاد دول الممانعة أو دول أوروبا الشرقية والاشتراكية سابقاً.

 

الاّ أن الحروب الملبننة ليست متساوية أصلاً. فتعدديتها تنجم من عدم المساوات بين الطوائف ومساراتها التاريخية. ولذلك فخروج الأهل على الدولة هو حصراً على المسلمين. فالجناح المسيحي، وفق تسمية الكاتب، عصبي طائفي واجتماعي، معاً. أما الجناح المسلم فعصبي طائفي وحسب، وللوجه الاجتماعي نصاب تمثيل مختلف ومستقل، أي في تاريخانيته وأصوله العثمانية والسنيّة (ونُظُم الأعيان والعلماء والمفتين التابعين للخلافة) يبقى خارجاً عن هيكلية الدولة ومؤسستها التمثيلية والاجتماعية. والجناح المسيحي سلال قيام العامة على الأعيان والأسر، ولبنان الدولة والوطن أفق سياسته؛ والجناح المسلم يتحدر من الأعيان والأسر، وأفقه السياسي هو أفق الأهل، عشائر ومسلمين (خروج ١٥٣). وفي تكوين لبنان الطائفي حُدّد مسار الجناح المسيحي أنه "خط اليمين الجماهيري"، مصدره بنية جبل لبنان الإقطاعية في القرنين الثامن والتاسع عشر مع تربّع قوة الكنيسة المارونية وسلطتها الريعية على قمة هرم الأعيان وأصحاب المقاطعات (المقاطعجية) وفلاحيهم. أما في الجناح المسلم فالأمثلة التاريخية كثيرة بين السنة والشيعة للخروج العلني عن أفق الدولة والأمة (أو الدولة – الأمة الأوروبية كنموذج سياسي واجتماعي للقرنين الأخيرين)، بداياتها الشروع في تيارات وقِيَم عروبية وناصرية وحروب تحرير فلسطينية لا نهاية لها تُقزّم الوطن الأم الى ما هو «أكبر» و«أعمق» منه، وآخرها حروب «الثنائي الشيعي» وتقويضهم لأسس الدولة اللبنانية واستلحاقها بمشروع الدولة المليّة الحديثة الإقليمي والفارسي.

 

فالطوائف اللبنانية ومذاهبها وتوزيعها الجغرافي ليست على مستوى واحد من التمثيل السياسي بين ما هو «داخل» الدولة (السلطتان التنفيذية والتشريعية والتمثيل النيابي والأجهزة القضائية) وما هو خارجه (المليشيات المسلحة و«خيار» المقاومة على صعيد المثال لا الحصر)، كما أن للتمثيل النيابي وأفُق الدولة – الأمة وشرعية القضاء والاقتصاد الرأسمالي الليبيرالي معانٍ مغايرة بين الطوائف. فالصفة العامية المسيحية وجذورها التاريخية لها ضمنياً القدرة على استيعاب الخارج البرلماني بإخضاعها القوى الأهلية والعشائرية لأصول التمثيل البرلماني كطرف جوهري لأفق الدولة ومؤسساتها الحديثة. وهذا ليس ميسّراً عند الأطراف الأهلية الأخرى. فللوجه الاجتماعي عند الطوائف الإسلامية تمثيل «سياسي» جماهيري مصدره كتل وجماعات أهلية خارجة عن التمثيل النيابي الذي تتوق اليه الدولة كمصدر أساسي للُحْمَة الاجتماعية المتنافرة أصلاً والانخراط في العمل السياسي. باختصار: ليست الطائفية بحد ذاتها (أكانت سياسية أم غير سياسية) المُعضلة البنيوية في تقويض النظام السياسي اللبناني وعدم قدرته على الشروع في «توحيد» الاجتماعي، بل تفاوت الطوائف وعصبياتها في رضوخها لأفق الدولة كمشروع سياسي واقتصادي جامع وقدرتها على استيعاب مشروع الدولة – الأمة (الأوروبي الأصل) عامةً.

 

نرى وصفاً لهذا التفاوت في جُلّ ما كتبه وضاح شرارة، وهو ليس بالقليل أصلاً. وإذا أردنا توجيه بعض النقد لهذه العملية الكتابية الواسعة فهو حتماً في عدم رؤية التفاوت بشكل مرضي، رغم بعض الإشارات من هنا وهناك، ضمن منظور الثيولوجيا السياسية. فلقد اقتصر شرارة في مجمل ما كتبه على البنى الأهلية للأطراف المتصارعة، ووصْف هذه الصراعات وأبنيتها التقليدية والحديثة والتفاوت بين الأهل حسب الطائفة والمنطقة والمدينة شمولي ودقيق في آن. إلاّ أن «الأصل» الثيولوجي لا يزال مبهماً. و «أصل» الثيولوجيا السياسية المسيحية الشرقية قديمة، ومن الصعب فهم ما حدث في القرون الأخيرة من تحولات اجتماعية كبيرة دون الرجوع الى أركيولوجيا المصطلحات الثيولوجية والسياسية ومعانيها. ففي العلوم الاجتماعية الغربية نزاعات طويلة حول دور المسيحية في بلورة الأفكار الليبيرالية والرأسمالية، ومساهمة «طوائف» كالبروتستانتية أكثر من غيرها في الرأسمالية الأنجلو – أميركية منذ القرن التاسع عشر، وتوابعها السياسية كالدور «الاقتصادي» الذي تنمُّ به دولة «الوصاية» الحديثة.

 

نرى البعض من هذا، وإن بخجل، في عمل متأخر صدر عام ٢٠١٣ تحت عنوان «طوق العمامة» عن التشيّع السياسي الحديث. فالخروج في التشيّع الامامي طلباً للمُلك أو العدل أو جهاداً في سبيل الله مردّ هذا الخروج الثيولوجي الى «ما يصنع النبوّة كحادثة تاريخية» (١٧٧)، وفي الانقطاع عن أمر وطاعة مستتبّين، وفي السعي في ابتداء امر آخر. واستئناف البدء هو ما يمدّ الخروج بشرعيته التاريخية والأنطولوجية في آن.

 

فالدولة الحديثة، أو الدولة – الأمة بمعناها الأوروبي التاسع عشري، لا تُشرّع هويتها المعاصرة إلاّ بخروجها عن الدين وإضفاء الصبغة العلمانية على مؤسساتها السياسية والقانونية والاقتصادية والقضائية. (نميّز بين الخروج عن الدين والعلمنة كمفهوم ينظّم علاقة الدولة بأفرادها ومنحهم حقوقهم الدينية كأعراف «خاصة» بهم وبطوائفهم.) ولحداثة الدولة «أصول» أخرى أكثر ترسّخاً. يستوقفنا هنا بشكل خاص موقف حنّا آرندت عن «بروز المجتمع» في كتابها الفلسفي «وضع الإنسانية» الذي نشرته جامعة شيكاغو عام ١٩٥٨ إبّان عُزلة الكاتبة في الغربة الأمريكية إثر هروبها من تعدّيات النازية التوتاليتارية على المجتمعات الأوروبية. يبرز «المجتمع» الأوروبي في القرون الوسطى بُعيد تراكم قرون من المفاهيم الاقتصادية اليونانية والرومانية والمسيحية التي تربط «الاقتصاد» بخصوصية الداخل المنزلي وتدبيره من قبل أفراده دون دخول المدينة (أو المدنية) السياسية كطرف مُنظّم ومُحاور. أما مفهوم «المجتمع» فيحرر «الاقتصاد» من انغلاقه على الخاص والتدبير المنزلي اليوناني ويرميه في خضّم صراعات «الحياة العامة» وتنظيمها من قبل الدولة ونُظمها البيروقراطية. تصبح الدولة وأجهزتها القانونية الحامي الأكبر لكل ما هو خاص، أي بدايةً المُلكية الخاصة وحقوقها، تحت راية «الثروة العامة». يستوقفنا هنا بشكل خاص ربط آرندت «بروز المجتمع» بـمفهوم «انحدار العائلة» في الفترات الزمنية الأوروبية نفسها. فكل ما هو عائلة (أو عائلي، أو عصبيات أهلية، أو أهلي بمفهوم شرارة) تم دمجه واستلحاقه بـ «مجموعات اجتماعية» أرقى تتوق الى العام والحياة العامة وكل ما هو حماية للخاص في آن. رأينا في كتابات وضّاح شرارة أهمية بنيوية تاريخية لأهلية المجتمعات المشرقية أكانت عربية أم إيرانية – فارسية أو إسلامية عموماً. وربما ما هو مُضمر في أهلية شرارة هو عدم بروز المجتمع تاريخياً عند الملل والطوائف الإسلامية أكانت من أهل السنة والحديث أو مُتشيّعة. بعض المؤرخين العثمانيين، أمثال شريف مردين، تنبّهوا الى نقاط الضعف في المجتمعات العثمانية عامة، خاصة انعدام «المدنيّة» التي تُرقي المِلل الى مستوى مجتمعات سياسية خارجة عن أطرها التقليدية العشائرية. ورغم أن هذه النقدية التاريخانيّة أصبحت متعاهدة عند البعض من أهل العلم والمعرفة، إلاّ إنها لا تُدرك تماماً نقاط الترابط التي أدّت الى ولادة أواصر «مدنية» المجتمعات الأوروبية. وقد يكون الرابط الأول لبروز المجتمع، وفق آرندت، تحوّل الاقتصاد البيتي (أو المنزلي) الخاص، في مفهومه اليوناني ثم المسيحي، الى اقتصاد عام بحماية الدولة (حماية الملكية الفردية، أي الأرض والعمل والرأسمال، والملكية الفكرية لاحقاً). وعلى مستوى آخر، تشكل الأهلية الحديثة (والدولة الملّية الحديثة) للمجتمعات الإسلامية، وفق مصطلح شرارة، نقاط ضعف محورية لنشوء المجتمع وتحويل الاقتصاد الأهلي الى اقتصاد عام خاضع لتنظيم الدولة المركزية وقوانينها. إلاّ أن «نشوء المجتمع»، وأفُقه الدولة والاقتصاد (السياسي) كتدبير للمصلحة العامة، أقلّه في «مجتمعات» شرق المتوسّط، يأخذ معانٍ متباينة بين العصبيات الأهلية والطائفية والعشائرية. فاذا قامت الأهليات المسيحية الشرقية على «مجتمعات» أهلية تطمح الى الدولة ومؤسساتها كطرف ينظّم الاقتصاد والتمثيل السياسي، تتوق الأهليات المسلمة، أكانت سنيّة أو شيعيّة، الى ما هو خارج الدولة – الأمة في السياسة والاقتصاد معاً، ناهيك عن كل ما هو «سياسة مالية» ينظّم ما هو معني بسلامة العملة الوطنية. فـ «اقتصاد الممانعة» على صعيد المثال، كـ «خيار المقاومة» والتحرير إلى أجل غير مسمى، هدفهم تقويض سياسات الدولة المحلية وربطها بما هو «أكبر» منها في تيارات شعبوية ودول لا حدود لها، ضمن أسس اجتماعية واقتصادية هشّة لا وطن لها. يأتي هذا التباين بين الطوائف في ما يخص السياسة والاقتصاد والمالية والقانون من ثيولوجيا سياسية مُضمرة المعالم والطموحات. ما نريد الإشارة إليه من هذه الملاحظات السريعة والمُقتضبة هو صعوبة تقصّي تاريخيّة مفاهيم كـ «نشوء المجتمع» والتمايز (أو التباين) بين الثروة الخاصة المنزلية و«الثروة العامة» التي تؤسس مفهوماً آخر يربط الدولة بالاقتصاد والسياسة معاً، علماً أن «حماية» الدولة للاقتصاد لا تقتصر على العام بل تتجاوزه لكل ما هو خاص ومنزلي وفردي من خلال الضرائب التصاعدية على الدَخْل (أفراداً أم مؤسسات)، ومراقبة الثروة العائلية والمؤسساتية والحسابات المصرفية والأسهم والسندات (رغم قوانين السرية المصرفية في دول عدة). والصعوبة تنمّ من مسارات تاريخية أكثر تعرّجاً لمجتمعات شرق المتوسّط مع سيطرة الدولة الملّية الحديثة (وفق تسمية شرارة)، أو الدولة المستشرقة (أيضاً تسمية أخرى لشرارة)، أي دول خروج الأهل على الدولة وفرض الأهل أعرافهم وتقاليدهم على كل ما يَمُتّ إلى قوانين مدنية وجنائية أصلها البعيد الغرب الأوروبي وفلسفة الأنوار وحرية الأفراد. ومن الواضح في مسار التعرّجات التاريخية أن كل ما هو متأصلاً في الغرب، أكان دولةً أو قانوناً أو مصرفاً أو مشفىً، يُستورد في مجتمعات أخرى بمفاهيم وتطبيقات مغايرة عن الأصل الأوروبي. وهنا تكمن صعوبة التأصيل التاريخي لمجتمعات شرق المتوسط، وربط مستويات سوسيولوجية بعضها ببعض على غرار الحلقات التي تنضج بسوسيولوجياً أعلى منها مكانة. فحلقة أنثروبولوجيا سوق العمل على صعيد المثال لا تكتمل بما ينعته شرارة بالدولة الملّية الحديثة التي لا قدرة معرفية اقتصادية لديها أصلاً للتحكّم بسوق كهذه وضبط قواعد العمل وتحسينها. فسوق العمل والبطالة والتضخّم والضمان الاجتماعي والطبّي ليست من مقوّمات دولة كهذه ومن مهمّات أجهزة «أمنها» التي توزّع وتفرّق المجتمعات مللاً وعصبيات وطوائف مهمّشة في صيروراتها التاريخية لتحيا من هذه التجزئة.

 

ما هي شخصية الدولة الملية الحديثة في مسار مجتمعات شرق البحر المتوسط والعربية – الإسلامية عامة الغارقة في الأهلية والعشائرية والمذهبية؟

 

يرى البعض استحالة الدولة الحديثة المشرقية. فسابقاتها الإمبراطورية من قجرية وعثمانية ترسّخ فيها الرأسمال الديني، أي قوة الدين وصعوبة الظفر بالمجال السياسي دون التحالف بين الدين والفقه والسياسة. فاستحالة الدولة الحديثة تنمّ من استحالة إعادة التوازن الثلاثي مع تصدّر السياسي على الديني والفقهي وعدم إخضاع العلماء والفقهاء والقضاة إلى هرمية الدولة الإدارية. وإن خرجت الدولة من الديني والفقهي وتفقّهت بقوانين غربية حديثة (نابليونية الأصل والمصدر) فهي ستفقد بذلك هويتها وقانونيتها وشرعيتها. تفترض هذه المقولة أن «حداثة» الدولة محصورة بالغرب الأوروبي كمصدر تاريخي لهذه الحداثة ومقوّماتها السياسية والاقتصادية. نريد أن نقترح مفهوماً للدولة الحديثة يشمل مجتمعات شرق المتوسط وغربها في آن وغيرها من المجتمعات من باب «الخروج عن الدين» الذي تبلور في الفكر الغربي التاسع عشري منهياً بذلك «الفكر الكلاسيكي» الثامن عشري، وقد شكّلت الثورة الفرنسية إرهاصاً لهذا التحول. نرى من جانبنا أن الخروج عن الدين لا يشمل العلمنة بالضرورة، أو لا يشمل العلمنة كهدف أساسي لهذا التحوّل السياسي والاجتماعي. فالخروج عن الدين هو في أساسه خروجاً عن أنظمة دينية وخلافية وفقهية كانت تتحكّم بالسياسي وبرموزه («جَسَدَيْ السلطان» في الثيولوجيا السياسية الأوروبية في القرون الوسطى، والفصل بين جسد الأمة السياسي والجسد الطبيعي). فالديموقراطيات الغربية، والأمة – الوطن ودولتها، والفاشية، والتوتاليتارية، والشيوعية، والاشتراكية، كالليبيرالية الاقتصادية، كلها تشكّل حلولاً ومخارج سياسية حديثة المنشأ للخروج عن الدين. ومصدرها الفكري واحد رغم زخم التناقضات والصراعات السلمية أو الدامية. وتسبّب هذا الخروج والانهيار الأرستقراطي في ملكية الأرض وريوعها، وبروز طبقات جديدة إبان الثورة الصناعية والهجرة المكثّفة الى المدن، في حربين عالميتين وإعادة خلق توازن جديد بين الغرب الأوروبي وشرقه. والشرق الأوروبي هو بدايةً أوروبا الشرقية التي شهدت في حربين داميتين تهجيراً كبيراً لسكانها وأرزاقهم لم تشهده مثيلاتها الغربية التي حافظت على سكانها ومدنها وأريافها رغم الدمار الشامل الذي عاشته على دفعتين. وإذا كان من دلالة إنثروبولوجية لهذا الفارق الكبير بين شرق أوروبا وغربها، فمردّه لهشاشة البنى السياسية والاجتماعية الشرقية، وخضوعها تاريخياً لكبار الملّاك وريوعهم وضعف سياسات البورجوازية وتأخير الصناعات والحركات والتجمعات المدينية والمدنية. ما نود الإشارة اليه أن الخروج عن الدين فرض نفسه أيضاً وبقوة على مجتمعات شرق المتوسط. فاستقلالية محمد علي باشا «المصري» (والألباني الأصل والمنشأ واللغة) عن والي أمره الخليفة العثماني، وخوضه معارك ضارية ومذلّة ضد الخلافة، ثم الرد العثماني من باب التنظيمات الهميوية لتحديث الأجهزة البيروقراطية والقضائية وإدخالها بعالم مثيلاتها الغربية، وأخيراً لا آخراً تقويض سلطة الدولة القجرية ورموزها إبان «الثورة الدستورية» عام ١٩٠٦، وللعلماء الشيعة دوراً بارزاً في التمرّد على السلطان، كلها تشير بتمايز شديد الى «نهاية» للأنظمة السياسية القائمة على «توافق» (ضمني أو علني) بين الدين والسياسة وأنظمة ريوع أراضي الأعيان وكبار مالكيها.

 

في أحد أعماله المتأخرة، «طوق العمامة، الدولة الإيرانية الخمينية في معترك المذاهب والطوائف»، ٢٠١٣، يطرح شرارة سيرورة مغايرة وغير مكتملة للدولة الخارجة عن المجتمع وطبقاته وفوارقها الاقتصادية والمالية والداخلة في صراعاته الأهلية والمذهبية في آن. ففي الأعمال المتأخرة نرى أن خروج الأهل على الدولة يشكل استثناءً في الإطار الخاص للحروب الملبننة. أما إطاره العام فهو سوري وعراقي ومصري وإيراني خميني حيث التمثيل السياسي، والليبيرالية الاقتصادية الفردية، إن وجدت، يخضعان لضوابط خانقة. سبق «طوق العمامة» كتاب مفصّل عن حزب الله اللبناني ودولته الإسلامية في الفترة الإنتاجية المتوسطة، إي التسعينيات، على هامش كتاب آخر عن التشيع اللبناني وخطاباته تحت عنوان «الملّة القلقة». مهّدت هذه الدراسات المفصّلة عن التشيُّع في إطاره اللبناني الى التساؤل عن ماهية خارج هذا التشيع وحنينه الى الأفق الإيراني الخميني والإمبراطوري الفارسي.

 

في الأعمال المتأخرة توسيع لأفق خروج الأهل على الدولة عبر مقارنات وصفية مفصلة بين لبنان، العراق (منذ عهده الملكي إلى عبد الكريم قاسم وبعث صدام حسين، مروراً بالحزب الشيوعي العراقي وجماهيره العريضة)، وإيران الخمينية.

 

يأخذ خروج الأهل على الدولة معانٍ مختلفة بين لبنان والعراق وإيران الخمينية.

 

في صدد جريمة بعلبكيه «عائلية» في عام ١٩٩٤ يصف شرارة موقع الدولة اللبنانية بالمستشرقة نسبة للاستشراق الغربي وعزل الدولة ومؤسساتها القضائية (أيام القتل العادي ١٥٤). فمع انحسار الشرع بين عناصر حزب الله والفاعليات والعائلات وقتل الشاب الذي كان يُعتقد أنه الجاني، قال وزير الداخلية آنذاك بشارة مرهج في حديث إذاعي "إننا نحترم الحل العشائري"، ثم استدرك: "لكننا جميعاً اتفقنا أن نعيش حيث يسود الدستور والقانون اللبناني" (١٥٥). مصدر التضارب والتناقض بين الجماهير والعائلات والفعّاليات الدينية والمدنية والرسميين الإداريين وغيرهم مردّه الى عدم ترسُّخ أفق الدولة الحديثة عند الجماعات الإسلامية. لم نجد عند شرارة المصطلحات الأركيولوجية بسيرورتها التاريخية على الأقل في القرنين الماضيين لتتبّع مسار خروج الأهل على الدولة وافتقار التماسك الاجتماعي الذي يخلق أزمة بهذا الحجم. في كتاب عن جرائم في الشمال السوري بين حلب وإدلب وقعت تحت سيطرة البيروقراطية البعثية في الثمانيات والتسعينات من القرن الماضي قمنا بنشره عام ٢٠١٥ («جريمة الكتابة»، المعهد الفرنسي للشرق الأدنى، بيروت)، رأينا ضعف التواصل، إذا صحّ التعبير، بين النصوص القانونية الجنائية الغربية الأصل (والتي عُرّبَت في معظمها بدايةً وفق اجتهادات مصرية منذ بداية القرن الماضي، ثم لبنانية) والتوقّعات والممارسة على الأرض من تحقيقات الشرطة إلى قاضي الإحالة والمحامين وقضاة المحكمة والنيابة العامة. ويبرز ضعف التواصل خاصة في الشهادة نفسها ومحاضر الشهود والمتهمين وتدوينها وكتابتها (مباشرة على أوراق مختومة برموز الدولة السورية في أغلب الأحيان)، أي في ضعف التواصل الاجتماعي واللُحمة الاجتماعية اللذان يريان النور من الاحتكاك القسري بين سلطة الدولة الخارجة على المجتمع وتهميش أفرادها وجماعاتها، وكتابة الجريمة الموزّعة بين ممارسات الشرطة والمحامين والقضاة والنيابة العامة وأطباء وعلماء نفس وغيرهم. إلاّ أن هذه التعددية في الممارسة الكتابية والقانونية والطبية لا تستوي على أي نوعٍ من اللُحمة الاجتماعية بحماية الدولة وأجهزتها القضائية العتيدة. إذ تبدو مُجمع القوانين المدنية والجنائية في وضع «وراثي» من مجتمعات أخرى مع طموحات مختلفة لا تفي بحاجات اليوم. لا تبدو الدولة ومجتمعاتها وطوائفها «مهدّدة» بجرائم المجتمع اليومية من سرقة وقتل واحتيال، كم أن فلسفة «الرادع» و«تفصيل الجريمة» و«حِساب العقاب» بدقّة متناهية وفق أصول العدل والقانون، جميعها مفاهيم طوّرها سيزار بيكّاريا الإيطالي في أواخر أنوار الثامن عشر وانتشرت بكثافة في عصر الثورة الصناعية. إلاّ إنها لا تبدو الشغل الشاغل في مجتمعاتنا الشرق أوسطية رغم اعتمادها كركيزة أساسية لأجهزتنا القضائية. فهل الجريمة «الوعي الجماعي» للمجتمع لخروجها عن المألوف اليومي؟ وما هي دلالات خروج الجريمة عن رواية الدولة إذا صحّ التعبير؟

 

اختزال السياسة والاقتصاد.

 

مفهوم «الدولة» عند وضّاح شرارة وعلاقته بـ «المجتمع»، أكان أهلياً أم طائفياً أم مدنياً، تطوّر بمراحل ثلاث نود توضيحها واستنباط نظرية للدولة الحديثة من خلالها. فالأهلية تتركّب بطبيعة الحال حول مقوّمات تتوزع حسب المكان والزمان بين العشيرة والعائلة والريف والحي والمدينة (الموقوفة) والمهنة والمكانة والمرتبة، مع أحد العناصر الذي يطغى على العناصر الأخرى في مرحلة تاريخية معينة. لذا تعنّت شرارة ورفضه تأقلم الأهلية بثوابت معينة، إذ لا أصل لها يتحكّم بالمستويات الأخرى. في أعمال أولى موثّقة بين مادة أرشيف الصحافة والمجلس النيابي اللبنانيين، كـ «السلم الأهلي البارد»، تبرز الدولة بإطارها اللبناني الخاص (القاعدة التي تشذّ عن محيطها العربي والإسلامي وتُثبّته في نفس الوقت) كـ «مُنسلخة» عن المجتمع. و«الإنسلاخ» يجسّدُ عدم قدرة الدولة – الأمة على «استيعاب» قوى المجتمع ضمن أطرها السياسية والقانونية والاقتصادية المتعارف عليها وخلق ما يشبه بلُحمة اجتماعية مرجُوّة، مما يفسّر وجود تمثيل برلماني ديموقراطي له دوراً بارزاً في الحياة السياسية والتشريعية ولكن يفقد الشمولية المرجوة. ومرد ذلك الى خروج جماعات مُعَيّنة، إسلامية على الأغلب، عن مؤسسات الدولة التمثيلية، رغم وجود برلمانيين من نفس الطائفة والمنطقة، نحو خارج سياسي نضالي أكان ناصرياً أو فلسطينياً أو بعثياً أو عجمياً أو إمامياً فارسياً.

 

في مرحلة ثانية تطرقنا اليها سابقاً انتقلت مشكلة «انسلاخ الدولة عن المجتمع» الى مفهوم مرادف هو «خروج الأهل على الدولة» الذي نراه محورياً عند وضّاح شرارة، مشكلاً بذلك الخيط الرئيس لجميع أعماله. وفي بعض الأعمال المتأخرة أخذت الدولة صفة «الدولة الملّية الحديثة» رغم غيابها في تعليق شرارة على عمل حنا بطاطو «العراق مثالاً وحنا بطاطو دليلاً»، نشرته أشكال ألوان في بيروت عام ٢٠١٨. فطبقات العراق القديمة والحديثة، من أعيان المدن والأرياف وفلاحيهم وعشائرهم، والأشراف وضباط التنظيمات العثمانية ومراتبهم، والطبقات الوسطى الحديثة التي خلقتها الهجرة المدينية، والأحزاب القومية من بعثية وشيوعية، جميعها نظّمها حنا بطاطو بهرم اجتماعي ضمن سياق التاريخ الاجتماعي، ولملكية الأرض وريعها جانباً أساسياً من الصراعات الاجتماعية والسياسية. إلاّ أن عمل بطاطو، وإن كان الأكثر توثيقاً وأمانة للعراق الحديث، ومادته الأساسية الأرشيف البريطاني ومحاورات الكاتب مع قوميين وبعثيين وشيوعيين قابعين في سجون الدولة بداية الستينات بعيد الانقلاب على عبد الكريم قاسم، يترك مجالاً كبيراً ومُبهماً حول نمط الدولة التي تناولت تقلبات العراق الحديث من سيطرة مُلكية فيصل والهاشميين إلى عبد الكريم قاسم («خلوّ العرش») حتى بَعْث أحمد حسن البكر وصدّام حسين. فهذه «المسافة» أو «الفجوة» بين الدولة (الحديثة وخليفة مِلل بني عثمان) وطبقاتها القديمة والحديثة تناولها كنعان مكّية في كتاب نشر في الولايات المتحدة قبيل غزو العراق للكويت صيف ١٩٨٩ تحت عنوان «جمهورية الخوف» وتحت اسم سمير الخليل المستعار (والخائف). فسبب الخوف هو عدم قدرة الدولة الاضطلاع بدور المتسلّط بواسطة المؤسسات والأجهزة التقليدية من سياسية وبرلمانية وقضائية وطبّية وعلمية ثقافية. وعدم القدرة واختزال المؤسسات السلطوية يُحوّل الدولة الى أجهزة قمعية مباشرة لا صبر لها على الأسس القضائية المدنية والجنائية وروتينها الطويل والمعقّد. فالعنف المباشر والدور المتعاظم للجيش والأجهزة الأمنية والمخابرات على مدى عقود مردّه الى اختصار كبير في التاريخ الاجتماعي العراقي وطبقاته التي تحافظ على هرميّات تخلو من لُحمة اجتماعية جماعية ولا تساهم في تأسيس دولة سلطوية تحترم حرية الأفراد ومعتقداتهم. والدولة السلطوية تعني تدخّلاً «على الناعِمْ» في حرية الأفراد ومعتقداتهم، بدايةً في العقود والموجبات التي، وإن هدفها حماية الملكية الخاصة (والعامة) في نظام تبادل ليبيرالي، تفرض على الأفراد قيود شديدة في التبادل تتحكّم بها الدولة ومؤسساتها القانونية والقضائية والتشريعية. ونرى أيضاً مطلب الدولة الى الانضباط في سلوك أفرادها وفرضها أساليب شتى تأديبية ونظامية تُعاقَب بقوانين جنائية ومؤسسات طبّية وغيرها تأديبية. كما أن الدولة الحديثة تأخذ على عاتقها الهَمّ الاقتصادي واستواء «الاقتصاد» كمرجع أساسي لنجاح الدولة في تكوين لُحمة المجتمع رغم الفروقات الطبقية وعدم التوازن في دخل الأفراد وبين جماعاتهم ومناطقهم وتوزيعهم الجغرافي والسكاني. ولهذا كله، فإن دراسة حنا بطاطو التي تفصّل الفروقات الطبقية وتوزيع ملكية الأرض بين الأفراد وجماعاتهم من جهة والدولة (الهاشمية بدايةً) في حفاظها على العام، ليست كافية لتتبُّع تقنيات التسلُّط الحديثة بين القوانين وتطبيقاتها في اقتصاد الواقع والمؤسسات التأديبية عموماً أكانت ثقافية أو عسكرية أو طبّية. ينطلق كنعان مكّية ووضّاح شرارة، كلاً على حدة، مع فارق قرابة الثلاث عقود، من نفس المُعضلة التي تركها إرث حنا بطاطو على تاريخ العراق الحديث ورواسبه العثمانية والشريفية – الهاشمية. فالطبقات القديمة والحديثة على السواء ليست بالكافي لتتبُّع عن كثب ما آل اليه مشروع الدولة الحديث في العراق وجواره العربي والكردي والفارسي. هنالك «فجوة» في المادة والتحليل الاجتماعي يحاول مكّية وشرارة ضبطها بأساليب مختلفة، وإن طغت السياسة وتوزيع الأدوار بين السياسيين والحزبيين والجيش والقوات المسلحة الأخرى ضمن حقب مختلفة في التحليل والتبرير. كما أن ما يخلق المغايرة هو ليس الموضوع بحد ذاته – الطبقات الاجتماعية وملكياتها وارتباطها بالسياسة والأحزاب أو انعزالها عن الجماعات الأخرى – بل الأسلوب ومنهج التعامل. إضافة فإننا نفترض أن لغة الدولة السياسية أو الاقتصادية لها استقلال خاص بها ليس بالضرورة مترابطاً مع المستويات الأخرى الاجتماعية أو الطبقية. وهذا ربما مأخذ مكّية وشرارة على منهج بطاطو الطبقي: كيف نفهم تكوين الدولة من خلال طبقات الفلاحين ومالكيهم ومِللهم وأحزابهم وضبّاطهم وانقسامات أهل المدن؟ نرى من ناحية أخرى قصوراً عند الكاتبين، مكّية وشرارة، المميزين لفهم معضلات الدولة الحديثة، في بيئتها العربية والإسلامية، ومتطلباتها الاقتصادية والقانونية والتأديبية التي أشرنا اليها. وربما تكمن المشكلة الكبرى في حركات «الخروج» على كل ما هو تنظيماً للدولة ومؤسساتها. إذ يفترض مفهوم «الخروج» عند شرارة «عدم قُدرة» الدولة بالتحكّم بمسؤولياتها تجاه سكّانها وأمنهم وأرزاقهم وأملاكهم. وعند مكّية أيضاً «خروجاً» غير مُعلن وغير مُنتظم. فهنالك على الدوام جماعات مدنية ومسلّحة تفرض إرادتها ومشيئتها على تراث الدولة، وهو بطبيعته إرثاً عثمانياً وكولونيالياً، ومزيجاً من مرجعية الإثنين معاً. وجماعات كهذه هَمُّها الأساسي الاقتصاد أكثر من السياسي ولُحمة المجتمع وديمومته كوحدة سياسية وقانونية واقتصادية. فهي تساهم في تقويض أسس الدولة وهيبتها الاقتصادية من باب تبييض الأموال والتهرّب الضرائبي وتهريب البشر والسلع والأموال عبر الحدود الرسمية (ورسميّة هذه الحدود من آثار السياسات الاستعمارية السلبيّة وفق الخارجين عن القانون)، ناهيك التعامل مع مؤسسات اجتماعية ومالية وعسكرية غير مرخّصة من الدولة، قد تكون إضافةً على لوائح عقوبات بين الإتحاد الأوروبي وأميركا الشمالية. يدل كل ما أشرنا اليه أن مفهوم الخروج يفترض نمطاً من الدولة الأوروبية تمّ استيراده منذ قرن بعد انهيار السلطنة لحاجات ملحّة داخلية، ثم تمّ التأقلم معه محلّياً مع مراجعات مكثّفة أدت الى تقويض أسس الدولة. والتقويض هنا نسبة الى المرجع الأصل الغربي.

 

في مرحلته الثالثة والمتأخرة يختبر وضّاح شرارة مفهوماً، وإن كان جديداً بالتسمية، الاّ إنه تراكم التعرّجات السابقة، الأولى والثانية، أي مفهوم «الدولة المِلّية الحديثة» الذي برز في الأعمال الأخيرة، وهو يفترض انسلاخ الدولة على المجتمع، وخروج الأهل على الدولة كمفاهيم مترادفة ومتكاملة، رغم أن النقد الموجه الى عمل حنا بطاطو، من باب المحاسبة والمعاتبة، خلا من الإشارة صراحة الى الدولة الملية الحديثة، لكنه يفترضها في إطارها العراقي الأرستوقراطي والهاشمي وما بعده دون التسمية. ففي «العراق مثالاً» تبدو الدولة الريعية وحاملة العصبيات الخلدونية والاستتباعية «المثال» الذي يطمح شرارة الى معالجته. وكلها مفاهيم لم ينطق بها نص بطاطو، فيستنبطها شرارة محوِّلاً بذلك عمل بطاطو التأريخي الى «نموذج» لعدم الإفصاح بالمفاهيم الخلدونية. أو قد يكون عمل بطاطو «نموذجاً» لعدم ربط «مثال» العراق بالدولة الريعية وحاملة العصبيات المتأجّجة. كأن بطاطو لم يكن له القدرة، رغم صبره لمتابعة صيرورة المجتمعات العراقية على مدى قرن من الزمن، لرؤية الدولة المخابراتية التي تخنق السياسة وتختزلها الى صراعات خارج مقوّمات التمثيل البرلماني، والذي بطبيعة الحال هُمّش وفقد قيمته. وبداية التهميش مع نهاية الهاشميين العراقيين وانقلاب عبد الكريم قاسم ثم انقلاب البعثيين الأول عليه. وما لم يستوعبه بطاطو أيضاً هو تهميش الشيوعيين، رغم الكثافة الشيوعية في العراق نسبة الى جيرانه العرب. وتختزل الدولة المِلّية الحديثة السياسة عندما تهمّش الأقليات في الداخل الوطني والخارج الإقليمي وعندما تُنصّب هيئات أو مراجع غير مُنتخبة فوق إرادة الناخبين (طوق العمامة، بصدد الدولة الإيرانية الخمينية، ١٠٢).

 

كما أن لخروج الأهل على الدولة وتوظيف الدولة الملية لآلية الخروج وتهميش الأقليات يلغي السياسة كعمل تاريخي يسعى الى إنشاء أفق مشترك للجسم الاجتماعي. (ما هو « المجتمع » في المجتمعات الأهلية التي فقدت السياسة؟ وما هو الاقتصاد أو الاقتصاد السياسي مع غياب الاجتماعي والسياسي معاً؟) فإلغاء السياسة «يخنق العلاقات السياسية الحية والقابلة للمنازعة المقيدة والمحدودة» (طوق ١٨٤). كما أن العصبيات القبلية القديمة والمترسّخة لقرون مضت تتفرّغ من علاقاتها مع تبلور عصبيات مذهبية أو أهلية حديثة مشتركة وجامعة. وهذا ما حدث على صعيد المثال لا الحصر مع الحوثيين الجدد في اليمن عندما استولت نخب حديثة على الطبقات القديمة (الزيدية) ودمجتها مع عناصر جديدة ضمن مشترك أهلي حديث (طوق ٣٤٥). مما يوحي أن علاقات القرابة لا تعمل ضمن ثوابت أنثروبولوجية بنيوية عصبية وقبلية، إذ هي خاضعة باستمرار لإعادة تركيب العصبيات ضمن مشترك الأهل والأهلية. مما يطرح تساؤلات كثيرة حول غياب السياسة والاجتماع والاقتصاد أو الاقتصاد السياسي. (من الضرورة طرح ماهية الأفق الثيولوجي – السياسي إبان العصور الإمبراطورية القجرية والعثمانية ومن ضمنه السياسي والاقتصادي والاجتماعي ومتابعتها الى كل ما هو حديث ومُحدث.)

 

البروز التاريخي للمجتمع واقتصاده وتفتّته اقتصادات أهلية.

 

طرح البعض فكرة «الاقتصاد السياسي» للبنان ككل أو لجماعات أو أهليات أو حصراً لحزب الله كمثالاً أو نموذجاً لسيطرة الأطراف الأهلية على الدولة. (أنظر جوزيف ضاهر، الاقتصاد السياسي لحزب الله، ٢٠١٦، بالإنجليزية.)

 

يعزو جوزيف ضاهر نشوء الاقتصاد السياسي للحزب اللّهي منذ الثمانيات الى اليوم الى التناغم والتجانس بين «الاقتصاد» والكدرات الحزبية (ضاهر ٨٨) ونشوء شركات خاصة تمويلية وتجارية وخدماتية مع تعاطف شبه علني للحزب (ضاهر ٨٧). أما الكدرات الحزبية فانتقلت منذ تأسيسها عام ١٩٨٥ من الديني الى النيولبرالي. فالمؤسسات الليبرالية، أكانت حزبية أم مدنية طائفية خاضعة لقانون الجمعيات اللبناني (والعثماني الأصل من ١٩٠٩، وبدوه الفرنسي الأصل من ١٩٠١)، تحوّل الطقوس والعبادات الدينية الى مرجعية اقتصادية تُفقدها من زخمها الأساسي أكان كنسياً أو منتمياً الى الحنفيّة العثمانية او التشيّع الإمبراطوري. أضف الى ذلك تحسّن أوضاع فقراء الشيعة في جنوب بيروت وجنوب لبنان مقارنة بالسنّة في عكار والمناطق الشمالية عموماً، واستقرار نسب الفقر عند الشيعة في مختلف المناطق (ضاهر ٧٧). كما لعب الحزب دوراً أساسياً في استقطاب الثروات في الضاحية الجنوبية لبيروت وخلق مؤسسات وجمعيات «مصرفية» خارج القطاع المصرفي اللبناني وقوانينه العتيدة كالقرض الحسن، ومسجلّة عند وزارة الداخلية كجمعيات برّ وإحسان «دون أرباح». الا أن ضاهر لا يشير الى التهميش المالي الذي يخضع له كبار المتعاطفين مع الحزب وتجارهم ومموليهم وكل من له شبهة في تعاطف ما وتحت المراقبة الأميركية والمصرفية بتُهم الإرهاب أو تبييض الأموال. ولرئيس المجلس نبيه بري دوراً بارزاً في الاستقطاب المنظّم لرؤوس أموال الاغتراب الشيعي، أي البرجوازية الشيعية (الأفريقية خاصةً) الخارجة عن الآلية الداخلية الانتخابية. كما أن للحزب أو للثنائي الشيعي مواقف نيابية ليبرالية قد تبدو مغايرة لقاعدة حماية الفقراء وذوي الدخل المحدود التي وضعها الحزب كأحد الأسس الجوهر لتكوينه في نضاله الداخلي وحروبه الخارجية في آن. على صعيد المثال لا الحصر صوّت النوّاب الشيعة في نيسان ٢٠١٤ بأغلبية ظاهرة وواضحة على قانون جديد لعقارات السكن يُمدّد لإيجارات ما قبل ١٩٩٢ (ضمن ما سمي قانون إيجار الاستثمار الحر رقم ١٥٩ لعام ١٩٩٢ الذي شرعن الإيجارات السنوية الغير الثابتة) ما بين تسع الى إثني عشر سنة ضمن تعاقد جديد بين المالك والمستأجر وبحلّة جديدة. ورغم أن المنطق النضالي يحبّذ بقاء المستأجرين القدامى على قِدَمِهم، أي على بدلات إيجار طفيفة دون زيادات ريعيّة تُذكر، نظراً للنظرة السائدة أن المستأجرين القدامى هم عموماً من ذوي الدخل المحدود، الاّ أن هذا لم يمنع النواب الشيعة من الامتثال للأغلبية النيابية آنذاك. وقد يكون مرد ذلك لأمرين أساسيين. الأول هو نسبة عالية من التملّك عند طبقات الشيعة قد تكون أكثر ارتفاعاً من الطوائف الأخرى. والثاني هو الحماية المادية التي يقدمها الحزب للمستأجرين أكانوا مناصرين له أم لا. فللوهلة الأولى يبدو أن الطوائف المسيحية التي هي الأكثر ثراءً وتنظيماً هي نفسها التي كانت الأكثر تشدداً مع قانون إيجار عام ٢٠١٤ (وتعديلاته في ٢٠١٧ بعد الطعن من أغلبية مسيحية برلمانية أمام المجلس الدستوري، وهو المقام التشريعي الثاني بعد المجلس النيابي). ومرد ذلك لسببين. الأول هو كثرة المستأجرين القدامى ذوي الدخل الأدنى عند المسيحيين. فالروابط الخاصة بين ملاكي ومستأجري الطائفة الواحدة ساعد على المحافظة على التعاقد بين المسيحيين عبر عقود. فارتفاع المستأجرين القدامى مردّه الى ضعف الهجرة المسيحية الى مناطق وأحياء أكثر تواضعاً. فهجرة الجبل الى المدينة، وهي الهجرة الأولى الحديثة التي شكّلت مدخلاً سياسياً للبنان الكبير عام ١٩٢٠، بداياتها أيام نظام المتصرّفية العثماني و الرعاية الأوروبية. والهجرة الثانية أثناء الحروب الأهلية بين ١٩٧٥ و١٩٩٠ التي أخلت بعض أحياء بيروت الغربية ومناطق أخرى مُختلطة من طابعها المسيحي (فردان ومار الياس وعين المريسة). أما الأحياء الأخرى ذو الأكثرية المسيحية التقليدية والشعبية فعاشت على مدى عقود على التكاتف المُضمَر بين الملاكين والمستأجرين، وحماية المستأجر من التضخُّم وتآكل الدخل. وهذا لم يحصل عند سنّة بيروت على سبيل المثال حيث الهجرة من الأحياء التقليدية للطائفة الى خارج بيروت كان كثيفاً وممنهجاً (البسطة وطريق الجديدة والكولا). فما أنقذ المستأجر المسيحي ليس الطائفة بحد ذاتها، رغم قوّة وفعّالية الأوقاف المسيحية عند الروم والسريان والأرمن والموارنة، بل العلاقة الفردية والعضوية بين المالك والمستأجر التي لم تخضع بالضرورة لتنظيم حزبي أو عقائدي. فهنالك استقلالية ذاتية اقتصادية للمستأجر والمالك المسيحي رغم الوجود العامل الحزبي، والاستقلالية والعلاقة العضوية اللتان لا تخضعان بالضرورة (أو بالكامل) لأحكام الدولة وقوانينها حافظاً على مقام المستأجر رغم تحديث بعض القوانين لصالح المالك. أما أهل السنّة فعلاقتهم مع أوقافهم ومستأجريهم علاقة المستثمر بالسوق الرأسمالية ، وعلاقة الليبرالي بزبائن خارج الطوائف والطبقات. مما أضعف الأوقاف الإسلامية (وأصلها عثماني) وأدى الى تصفية بعضها كاملاً، كما أضعف علاقة المستأجر بالمالك وتهجير سكّاني الى أطراف المدينة وهضباتها (خلدة وعرمون وبشامون). كما أن ضعف الأوقاف الإسلامية، مقارنة بالمسيحية، مرده الى ضعف استثماراتها في الأسهم والسندات، أي كل ما هو «دَيْناً» على المسلمين (مثلاً أسهم شركة الإعمار سوليدير في وسط بيروت التي ساهمت فيها الأوقاف المسيحية بدون عائق ديني مالي يذكر، وبالأسهم التفضيلية للمصارف). (المصارف الإسلامية، الخاضعة لقوانين الدولة اللبنانية ومُراقبة مصرف لبنان، ظلّت هامشية حتى يومنا هذا.) وتعاظم التهجير إبّان «زعامة» رفيق الحريري وتولّيه رئاسة الوزراء في عقد طويل ومُلتبس حتى اغتياله عام ٢٠٠٥.

 

لا ينتبه ضاهر وأمثاله أنه من الصعب «تعميم» تجربة كالقرض الحسن (من بين مؤسسات وجمعيات أخرى مالية أو تجارية أو خيرية) الى خارج الإطار الشيعي الخاص بالضاحية الجنوبية وأعرافها (رغم أن زبائنية مؤسسات مالية وتجارية كهذه غير محصورة بالشيعة والتشيّع). فالقرض الحسن ومؤسسات أخرى مالية أو غير مالية لا «تُعمّم» لأنها بالدرجة الأولى أهلية (بالمعنى الذي أشرنا اليه سابقاً) ولا تحترم قوانين الدولة اللبنانية (قانون النقد والتسليف الذي بموجبه تأسس مصرف لبنان عام ١٩٦٣) أو القوانين الدولية في الشفافية والملاءة والسيولة. فهي مؤسسة ثورية تُدرج نفسها من ضمن اقتصاد الممانعة. و«نجاحها» قائم على اختصار السيولة بالنقد حصراً، واعتمادها قروضاً بالدولار الأميركي مقابل «ضمانات» عينيّة بالذهب والمجوهرات بدلاً من عَيْن العقار على صعيد المثال الذي يتطلّب إدخال الدولة اللبنانية ومؤسساتها كطرف أساسي في المقايضة والمراقبة القانونية. ونظام القرض الحسن الإسلامي هو بمفهومه الأصلي (القرآني) قرضاً «بدون فائدة» للمحتاجين، أي إنه لا يعتبر في أساسه قرضاً استثماريا لجهة المُقرِض. الاّ أن طابعه الاستثماري، إن وجد، يكمن في عدم قدرة بعض المحتاجين من إيفاء قرضهم الدولاري إما بالكامل أو جزئياً على الأقل عند الاستحقاق. فخروج «هامشاً» ولو ضئيلاً من المقترضين بالدولار عن سياسة القرض، مهما كان ضيقاً ومتواضعاً، يشكّل «فائدةً» مُضمرة لأمثال القرض الحسن مرسّخةً بذلك أسسها الليبيرالية والرأسمالية الغير معلنة. فعدم القدرة على إيفاء القرض من المقومات الأساسية للرأسمالية الحديثة ورُكن أساسي للمصارف وبطاقات الائتمان التي تُصدرها. وتكتمل الدورة الرأسمالية بالاستيلاء (وضع اليد) الكلي أو الجزئي على «ضمانات» القرض من أموال منقولة أو غير منقولة. واختزال السيولة بالنقد هو ما آلت اليه الدولة اللبنانية والمصارف في آخر المطاف منذ أزمة ٢٠١٩ المالية وربيعها المُلبنن، ودخولنا جميعاً بنفق مظلم نظراً لتحويل السيولة المجرّدة الى مقايضة نقدية عينيّة لا تتماشى مع مالية المصارف الحديثة. فأمثال القرض الحسن أسّسوا من حيث لا يدرون لمسار كهذا لدرجة إننا أصبحنا جميعاً قرضاً حسناً بدون فائدة. وصعوبة «نَسِخْ» مؤسسات مالية أو تجارية على غرار القرض الحسن للطوائف الأخرى يكمن في أنه نمطاً مالياً وتجارياً أقل جدارة من النظام المصرفي الحديث القائم على التداول العالمي والمجرّد (غير العَيْني) للسيولة والدَيْن (دَيْن مالية الدولة بدايةً)، وسياسته السرّية خارجة عن نُظُم الدولة الرسمية وأعرافها. فسرّية مؤسسات الحزب الإلهية هي غير السرّية المصرفية للدولة اللبنانية. فهدف السرّية الأولى الحزبية والأهلية العمل في ظل السرّية الرسمية وقوانينها المحلية والوطنية والدولية وتهميشها. فهي كالبؤر الحديثة التي لا تستطيع العيش والإنتاج الاّ في ظل نظام سياسي متعارف عليه وطنياً ودولياً، واقتصاده رأسمالي وليبرالي، فتقوم الأهلية الحزبية الطُفيلية بدور الخروج لعدم قدرتها الانصياع للسياسة العامة والتعاهد الدولي.

 

يكمن الخطأ الآخر عند ضاهر في تصويره « اقتصاد » الحزب ضمن « مدنية » وآلية تسلطية خاضعة لمجالس يتصدّرها مجلس شورى القرار (ضاهر ٩٥) وولاية الفقيه مصدر إلهامه (ضاهر ٩٧). في نهاية الأمر نظرة ضاهر تغمز في «تفاؤل» غرامشي من حيث لا تدري دون الادراك أن للشيوعي الإيطالي متطلبات كثيرة ومُرهقة قبل الولوج الى مجتمع مدني يحظى بثقة العامة.

 

تكرّس أهلية الطائفة (السياسية والاقتصادية معاً) انطواء أفرادها الى قوانين وأعراف الملكية الخاصة والأموال المنقولة وغير المنقولة وتراكم الرأس المال والثروات والتجارة الحرة – وكلها تشير حُكماً الى مقولات ليبرالية – لكن ضمن مقولة المصلحة الأهلية.

 

فرغم وجود نص ١٩٣٢ عن قانون الموجبات والعقود ونصوص أخرى تحمي حرية التملك والتجارة وتبادل السلع والسرية المصرفية وحق المودعين مهما كانت أهليتهم، الا أن «ضمانات» كهذه لا ترمي المنظومات الأهلية ضمن مشروع الدولة، إذ لا تبدو مؤهلة بالقوة الكافية لحماية الأفراد والمؤسسات من الغَير الأهلي.

 

حداثة الدولة المذهبية؟

 

النمط الأول للحداثة هو تاريخياً الدولة الوطنية الحديثة الغربية الأوروبية التي تفترض وحدة الشعب والأراضي والسيادة (طوق ١٥١) والذي ثَبُتَ كمرجعاً عالمياً من الناحية النظرية والتطبيقية. تطوَّر هذا النمط في أوروبا القرون الوسطى مع قيام الدولة المتسلطة والموحِّدة للكيان والأرض على ركام التقسيمات الإقطاعية القديمة. تكوّنت الثقافات الإقطاعية المنقسمة على نفسها في مزيج متنافر من الثقافات والقيم اليونانية والرومانية والمسيحية. أما القرن التاسع عشر الديموقراطي فقد شكّل «خروجاً» على الدين والنظم السياسية المبنية على الثيولوجيا المسيحية أكانت بروتستانتية أم كاثوليكية. والخروج الديني تمحور حول أربع إيديولوجيات أو نظم تفكير أصبحت العامود الفقري للسياسات الحديثة. في المرتبة الأولى النظم الديموقراطية المبنية على تمثيل المجالس النيابية في شتى أنواعها للانقسامات الداخلية للأمة والدولة والمجتمع، وتمحور دور الدولة الحديث حول «الاقتصاد السياسي» ولاحقاً بعيد الحرب الأولى في الـ«الاقتصاد» الذي افتقد دوره السياسي البحت وأصبح «تقنية» نمو ورقي وارتقاء بين الأمم وجُمُعاً من التقنيات المالية والاقتصادية لأجهزة الدولة دوراً بارزاً في إدارتها. أما الأنظمة الاشتراكية فهي «تعديل» لأصولها الديموقراطية مع دوراً أكثر ظهوراً لتوزيع الثروات العامة والخاصة وإضفاء العام على الخاص. وكذلك الأمر للإيديولوجيات الأخرى من شيوعية وتوتاليتارية وفاشية. فجميعها تشكل خروجاً عن الثيولوجيا المسيحية والأنوار الأوروبية وأُسسها الفكرية واحدة.

 

أما الدولة الملية (أو المذهبية) الحديثة فهي تشكل بدورها خروجاً عن الثيولوجيا السياسية الإسلامية بشقيها السني – العثماني والشيعي – القجري. فهي كشقيقاتها ورديفتاها الأوروبية التاسع عشرية «حديثة» بالمعنى ذاته الذي أدخلناه لهذه التسمية. أي أن الدور المحوري للدولة الملية الحديثة هو الخروج عن الدين دون الولوج ضرورةً بأسس «علمانية». أي أن الخروج لا يُمهّد بالضرورة لمكوّنات العلمنة الثقافية أو السياسية. وهذا النمط من الدولة – الأمة حظي بكثير من الانتباه لأنه المرجعية السياسية في عالمنا المعاصر. وهو المرجع النظري للإخفاق السياسي أيضاً أي للدول المنسلخة عن أمتها ومرجعياتها التراثية ووحدة الوطن والسكان والمذاهب وعشائرهم. في المشرق العربي (والفارسي والإسلامي عامة) نحن بصدد مُعضلة خروج الأهل على الدولة أي الانتقاض على السلطان وتقويض أجهزة الدولة ومؤسساتها في المثال والاستثناء اللبناني.

 

أما المثال المشرقي – الإسلامي الأكثر عمومية فهو الدولة الملية – المذهبية الحديثة ومسارحها الأهلية الداخلية وحروبها الإقليمية الخارجية. ويمتاز هذا النمط من الدول (المغاير للدولة – الأمة) في تسلّل وتسلسل الحروب غير النظامية الى قلب الدول الوطنية (طوق ١٥٨). الدولة الملية الحديثة ترجّح كفة القوم المركزي وغلبته على الدولة – الأمة وبذلك لا تترك هامشاً أو متسعاً لكيانات الأقوام الأخرى الذاتية (طوق ١٥). كما أن الدولة الملية تهمّش الكيانات الهامشية وتجرّدها من حقوقها ضمن سياسة قمعيّة مباشرة تأخذ أحياناً منحى الاغتيالات والتصفيات الجسدية الفردية والجماعية (طوق ٥٠).

 

فهل من تناقض نظري بين الدولة المذهبية وحداثتها المفترضة؟

 

ركن الاستثناء (أو التفرّد) اللبناني الذي أشرنا اليه سابقاً هو استقلالية الدولة (الغير مذهبية) عن الطوائف والمذاهب والعشائر، وعدم الموازاة لمشروع الدولة بين الطوائف. فخروج الأهل على الدولة يبقى محصوراً بين الطوائف الغير متأهلة تاريخياً لمشروع الدولة السياسي رغم وجود «تمثيل» سياسي للطوائف الإسلامية داخل المجلس. إلاّ أن هذه الطوائف تخضع في نفس الوقت لإطار إقليمي وأطر أوسع من سياستها الداخلية، وهي بذلك تشكل إرهاقاً سياساً وإقتصادياً للطوائف الأخرى الخاضعة لمشروع الدولة ضمن أفق الدولة – الأمة. فالطوائف المسلمة تستأنف الأزمات المحلية والوطنية على نطاق إقليمي ودولي. مما يحصر دور الدولة وسلطاتها التنفيذية والتشريعية والقضائية في دور المراقب والمُشارك في التوزيعات الطائفية الإدارية في آن واحد. ليست هذه الدولة بالضرورة «ضعيفة» كما يروّج البعض. تشكو الدولة اللبنانية من استقلال ذاتي إداري (ورثته من النموذج الفرنسي) قد يصبو أحيناً الى مزيج من الضعف والعجز في أخذ القرارات والاعتماد على الخبرات. قد يكون عراق ما بعد بعثية (وعبثية) صدام حسين إستثناءً آخر.

 

الاّ أن النمط الأعم والأكثر شيوعاً هو إسلامية الدولة الخمينية – الفارسية، أي «التباس الدولة والعصبية» (طوق ٣٦). ففي هذا النموذج الشرقي (المنتشر غرب آسيا) «السياسة الأمنية والقمعية المباشرة على وجهيها الفارسي والإقوامي سعت في تقويض قوام الجماعات وتصديع عوامل تماسكها وقطع دابر حركتها السياسية الذاتية» (طوق ٥٠). يرسو هذا النموذج على «الالتباس».

 

اولاً: التباس الدولة والعصبية الذي يؤدي الى تهميش كل عصبية خارج الوطن الأم واغتيال علماء وكادرات المذاهب المغضوب عليها من قبل الأغلبية الحاكمة وجماهيرها الأهلية (طوق ٥١).

 

ثانياً: التباس السياسة كأداة جامعة للوطن من جهة والسياسة الأمنية والقمعية المباشرة من جهة أخرى.

 

الالتباس الثالث يكمن في تداخل الداخل الأهلي مع الخارج الإقليمي وانتهاك الداخل مع انتهاك الخارج العربي، الكردي، اليهودي، النصراني، أو السني (طوق ٩١).

 

تتكون الدولة الملية الحديثة على مُفترض الواحد المتجانس ومُفترق نهاية نظام الإتاوات الإمبراطوري وتأسيس الدولة الحديثة الكولونيالية والنيوكولونيالية أي الدولة التي حصدت رصيدها السياسي من الاستعمار الأوروبي. هل يتحوّل مفهوم الدولة الملّية الحديثة الى مفهوماً آخراً أكثر غناءً وتعقيداً إذا «رُبِطَ» بمفهوم الاقتصاد السياسي للدولة الحديثة؟

 

ليست بنية الأهل بدايةً علاقات القرابة كما يفهمها علماء الأناسة رغم أن أول ما يوحي به الأهل هو القرابة. فقد تكون القرابة «العامل الأول» لا بل الأساس في بعض الظروف. والمهم هنا تحديد ماهية هذه الظروف أكانت استثنائية أم لا، أي دائمة أو لها قدراً من الديمومة. وقد تكون الأهلية في ظروف أخرى تحت تأثير ديني أو طائفي ظاهرين (والطائفية هي سياسة التديُّن، لذا فهي «أضيق» من التدين)، وللقرابة تراجعاً واضحاً في نفس الظروف.

 

رغم ذلك فإن بقاء الأهلية مفتوحة الآفاق، كمفهوم «الثقافة» الشاملة في الأنثروبولوجيا الأمريكية، يخلق متاعب أخرى. فللأهل، وفق شرارة، في مواقف وكتابات متناثرة غير واضحة، لها شبهةً لـ «شمولية» الثقافة الأنثروبولوجية رغم صعوبة «حصرها» في باب معيّن.

إضافةً نرى من الأفضل تبويب القرابة كعامل أساسي في صُلب بنية الأهلية كمحاولة لحصر الشمولية وللقدرة التحليلية. يمكننا التساؤل مثلاً هل يوجد نمط من «القرابة العربية» تستوفي معطياتها من محيطها الجغرافي والتاريخي الخاص بها كالمدينة والريف والزراعة والعشائرية والتواجد العائلي والطائفي (أو الديني والطقوس الدينية). باستطاعتنا طرح معطيات كهذه دون تحويل الأهلية كمفهوم شمولي يقوم على أفراد أو جماعات لها محاور ثابتة. فالأهلية الطائفية على صعيد المثال لا الحصر ليس بإمكانها الولوج بكمالية وكليّة الطائفة. فالأهلية الطائفية، إن كان لها نوعاً من التجانس بين أفراد وجماعات الطائفة ومللهم العثمانية، فقدوا قدرة كهذه في عالمنا الحديث. نرغب في فهم الأهلية، أكانت عقائدية أو طائفية أو عشائرية، من مكونات «اقتصادية» - أو الاقتصاد السياسي لدولة – أمة ما – كالثروة والدخل والضريبة والإتاوات المحروسة والأموال والنقود والسيولة.

 

 

Sunday, February 25, 2018

iran: a colonial power


Street protests have erupted in some middle eastern countries in January of this year, particularly in many Iranian cities, and in Sudan, Algeria, and Tunisia as well, where the protests have been the longest and most tenacious thus far. Though the protests were diverse, a common cause was attributed to the high prices for basic daily-needed commodities (beginning with bread), unemployment (particularly among the youth), and disappointing economies stagnating with hyperinflation. However, Iran’s protests, even though they may not be unique, are special due to the country’s rising political and military stardom in the region. In the last decade, particularly since the American withdrawal from Iraq in December 2010, the Arab uprisings in 2011–12, the Syrian civil war since March 2011, and the failure of the Afghani government to stop the expansion of the Taliban, have all contributed, among others, to the rise of Iran’s might in the middle east. From Afghanistan, to Iraq, Syria, Lebanon, and Yemen, Iran was able to construct a geo-military and political “alliance” of sorts, one that has made it a mini-colonial power in the region. It remains to be seen whether such alliance would produce any economic benefits to the concerned populations, particularly to “middle classes” that are more tuned to consumerism than political adventurism. In common jargon, the Iranian geo-military loose “alliance” is described as a Shiʿi consolidation against the political hegemony of Sunni Islam, one that is presumably led by the likes of Saudi Arabia and Egypt, the former derives its wealth predominantly from oil rent, while the second is over-populated and labor abundant. Upon a closer examination, however, what is routinely dubbed as a “Shiʿi alliance” turns out a vague term for a hodgepodge of “Shiʿisms” that by and large are historically unrelated and belong to different social and economic configurations. Iran itself belongs to a majority brand of Shiʿism, that of the Twelver Imamis, and to a social and economic formation that heavily depends on oil rent and its distribution among classes and ethnicities. Like any developing country, Iran is plagued by class inequalities created by rapid and uneven development, particularly touching on the commercialization of land and what is left of traditional agriculture, hence the importance of oil rent in conjunction with political adventurism. Its ethnic composition, by far the most complex in the region, combines under one state the Farsi Twelver Imami majority with Arabs, Kurds, Azeris, Armenians, Turkmen, and Baloch. In Iraq by contrast, the Shiʿi majority, which comes at around 65 percent, and which has been historically dominated by the Arab Sunni minority (20 percent), has been in power only recently thanks to the American occupation in 2003–2010. The Syrian ʿAlawi minority, which has been in power since 1970, could also be looked upon as another brand of Shiʿism, but its social and economic base is very different from the other Shiʿisms in the region and along the Eastern Mediterranean. So is Lebanese Shiʿism, which since the end of the civil war (1975–1990) has been associated with the radical paramilitary Hezbollah organization, which acts as a state within a state. In short, the Iranian political genius consists at bringing different social and economic formations under one informal geo-strategic alliance. But what for exactly? Perhaps one question that begs itself in this regard, in particular in light of the January street protests, is whether the costs of such an Iranian-led informal alliance would pay the bills.

The last big anti-government protests in Iran came in the wake of the disputed reelection of president Mahmoud Ahmadinejad in summer 2009. According to opposition records, more than 73 people were killed back then and over 4,000 were arrested. There are a few major differences this time. The Green Movement in 2009 was led by reform-minded intelligentsia and educated middle class and was concentrated in the streets of Iran’s capital city. This one has been led by mostly working-class young men; there are far fewer people rallying, yet the protests are more widespread across the country. In 2009, the protests were about empowering the reformists. This time, they look and feel anti-establishment, hence against the whole Islamic Republic. Somehow the cost of the informal Shiʿi alliance, constructed in the last decades with paramilitary civil war strategies that involved the best trained Iranian special and intelligence military personnel, are turning against the very foundations of the Islamic Republic itself. What the young men and women were questioning this time in the streets of many Iranian cities is the “usefulness” of what their country has been doing inside and outside Iran since the establishment of the Islamic Republic in 1979. Is the sacrifice worth the economic misery of a large part of the Iranian populace? Should the Republic maintain its moribund paramilitary alliance while people are suffering at home? But if the questioning seems radical, it is nevertheless extremely fragile, as there already are state attempts at the highest level to suffocate it through the services of the Revolutionary Guard and other special paramilitary forces which have become the hallmark of the Republic since the Revolution. Iran has been able to forge its alliance thanks to a country-by-country civil war strategy, betting on all kinds of structural weaknesses among the rogue countries, while avoiding civil war at home. Perhaps the time has come to look inside.

Perhaps the lesson to learn in this regard is that countries like Iraq, Syria, and Lebanon cannot be “on their own” anymore, as autonomous political units, assuming they ever did, and that they can only be governed through the kind of rough “alliance” that the Iranians are proposing, and to which Russia would serve as a political umbrella. This is a new reshaping of the middle east, an unexpected outcome of the street revolts, in which everyone is learning that states cannot be sovereign anymore. The obsession with state security, which has been nurtured by the likes of Nasser and Saddam Hussein, and which meant playing on the weaknesses of other states and societies, while raising the flag of civil war, now gets another turn. Now state security implies a process of collaboration between states, where a regional power like Iran would monitor the process on the ground with experts all over but in small numbers, which makes cost redundant the notion of a full-fledged occupation as was Iraq and as is Afghanistan now under American occupation. Russians and Iranians come in small numbers, bring their experts and mercenaries, impose themselves on the ground, and end up more cost-effective than the traditional colonial powers which have shaped the future of the middle east since Sykes–Picot in 1916.

afghanistan & iran


Afghanistan is America’s longest war ever—sixteen years in the making since the invasion of the country by a US led coalition in 2001–2002 and the help of conspicuous Afghani warlords—an operation whose estimated cost has neared a trillion dollars, with an annual budget of $40 billion. Originally designed as an operation that would oust the Taliban and the Qāʿida as organizations of terror, the Afghani war soon turned into an ambitious “nation-building” and the restructuring of Afghanistan into a modern state. At the beginning, in 2002–2003, the optimism was fueled by the ousting of the Taliban and the drafting of a new constitution that would establish a new division of powers and the eligibility for political representation. As the Bush Administration declared that the Taliban had been “defeated,” “universal suffrage” was introduced as the cornerstone of a political system of representation; women had a right to vote and go to school. But what does “defeat” mean when the “enemy” has no visible face or hierarchy, and when it is fighting an asymmetrical war of attrition with no end in sight. Time is one the side of the Taliban but not in favor of the US and its Kabul sponsored Pashtun-dominated government. Afghanistan’s problems are numerous, beginning with a strong tribal multi-ethnic “society” with a poor infrastructure, not to mention the constant intrusions of neighbors: Pakistan, India, and now Iran. The Taliban gradually took hold of power and the capital Kabul in the 1990s amid the end of the guerrilla-cum-tribal war against Soviet occupation in the 1980s. As tribal factions turn against one another once the war with the external “enemy” is over, the Taliban came to the rescue as a de facto, if not de jure, organizational power. Their rule was harsh and unforgivable, as women were taken out of schools and sanctions were imposed on individual freedoms. But the last ten years have witnessed a coming back of the Taliban to the point that they are now controlling many provinces and US and Afghani security forces find themselves on the defensive. Amid the breakdown of Iraq—another prematurely failed nation-building project—and the expansion of the Taliban, president Obama decided to “postpone” the final withdrawal hastily scheduled for 2016. President Trump will in all likelihood increase US troops by 4,000, but to what end exactly? The US has developed the habit of coming with grandiose “democratic” nation-building projects, only to leave them in a state of anxiety and no return. Other local and regional actors, states or well-grounded paramilitary groups (the two categories are often blurred), would come to the rescue. In particular that, as the article below points out, one of Afghanistan’s most ambitious regional border neighbors, the Islamic Republic of Iran, has knotted ties with its old foe the Taliban (a group which in itself is far from homogeneous, but nevertheless manages to control the bulk of opium trade in the region), in an extremely intrusive and ambitious strategy of destabilizing the Kabul government and US presence. Iran aims at “ethnic links” from Lebanon to Syria and Iraq up to Afghanistan. But what is it that hold such “societies” and “states” together in the first place? Could it be a delusional “ethnic identity” that would fail where the US and its allies had already failed? Perhaps president Trump can learn something from the failed legacy of his predecessor.

The legacy in Afghanistan, like Obama’s foreign policy record as a whole, was troubled at best. At points he had the elements of the right approach—more troops, more reconstruction assistance, and a counterinsurgency strategy—but he never gave them the time and resources to succeed. Obama came into office rightly arguing that the war was important but had been sidelined, and promised to set it aright. Yet Obama’s choices since 2009 reflected a more conflicted stance, and it is not clear he ever settled on a coherent strategy. He deployed more troops than needed for a narrow counterterrorism operation, but not enough for a broader counterinsurgency campaign. He initially increased reconstruction funding because he believed, rightly, that effective Afghan governance was an essential condition for victory, but quickly second-guessed himself and subsequently reduced civilian aid every year thereafter. Most damagingly, Obama insisted on the public issuance of a withdrawal deadline for US troops, undermining his own surge—which eventually became so obvious that he finally reversed himself. Obama’s belated decision to sustain a small force of some 5,500 troops in Afghanistan beyond his term in office is likely to keep the Afghan army in the field and the Taliban from outright victory—but this is at low bar compared to what Obama once hoped to achieve there.

Could the new (chaotic) administration do any better?

In Afghanistan, U.S. Exits, and Iran Comes In
A version of this article appears in print on August 6, 2017, on Page A1 of the New York edition of the New York Times with the headline: Iran Flexes in Afghanistan As U.S. Presence Wanes.

FARAH, Afghanistan — A police officer guarding the outskirts of this city remembers the call from his commander, warning that hundreds of Taliban fighters were headed his way.
“Within half an hour, they attacked,” recalled Officer Najibullah Amiri, 35. The Taliban swarmed the farmlands surrounding his post and seized the western riverbank here in Farah, the capital of the province by the same name.
It was the start of a three-week siege in October, and only after American air support was called in to end it and the smoke cleared did Afghan security officials realize who was behind the lightning strike: Iran.
Four senior Iranian commandos were among the scores of dead, Afghan intelligence officials said, noting their funerals in Iran. Many of the Taliban dead and wounded were also taken back across the nearby border with Iran, where the insurgents had been recruited and trained, village elders told Afghan provincial officials.
The assault, coordinated with attacks on several other cities, was part of the Taliban’s most ambitious attempt since 2001 to retake power. But it was also a piece of an accelerating Iranian campaign to step into a vacuum left by departing American forces — Iran’s biggest push into Afghanistan in decades.
President Trump recently lamented that the United States was losing its 16-year war in Afghanistan, and threatened to fire the American generals in charge.
There is no doubt that as the United States winds down the Afghan war — the longest in American history, and one that has cost half a trillion dollars and more than 150,000 lives on all sides — regional adversaries are muscling in.
Saudi Arabia and Pakistan remain the dominant players. But Iran is also making a bold gambit to shape Afghanistan in its favor.
Over the past decade and a half, the United States has taken out Iran’s chief enemies on two of its borders, the Taliban government in Afghanistan and Saddam Hussein in Iraq. Iran has used that to its advantage, working quietly and relentlessly to spread its influence.
In Iraq, it has exploited a chaotic civil war and the American withdrawal to create a virtual satellite state. In Afghanistan, Iran aims to make sure that foreign forces leave eventually, and that any government that prevails will at least not threaten its interests, and at best be friendly or aligned with them.
One way to do that, Afghans said, is for Iran to aid its onetime enemies, the Taliban, to ensure a loyal proxy and also to keep the country destabilized, without tipping it over. That is especially true along their shared border of more than 500 miles.
But fielding an insurgent force to seize control of a province shows a significant — and risky — escalation in Iran’s effort.
“Iran does not want stability here,” Naser Herati, one of the police officers guarding the post outside Farah, said angrily. “People here hate the Iranian flag. They would burn it.”
Iran has conducted an intensifying covert intervention, much of which is only now coming to light. It is providing local Taliban insurgents with weapons, money and training. It has offered Taliban commanders sanctuary and fuel for their trucks. It has padded Taliban ranks by recruiting among Afghan Sunni refugees in Iran, according to Afghan and Western officials.
“The regional politics have changed,” said Mohammed Arif Shah Jehan, a senior intelligence official who recently took over as the governor of Farah Province. “The strongest Taliban here are Iranian Taliban.”
Iran and the Taliban — longtime rivals, one Shiite and the other Sunni — would seem to be unlikely bedfellows.
Iran nearly went to war with the Taliban when their militias notoriously killed 11 Iranian diplomats and an Iranian government journalist in fighting in 1998.
After that, Iran supported the anti-Taliban opposition — and it initially cooperated with the American intervention in Afghanistan that drove the Taliban from power.
But as the NATO mission in Afghanistan expanded, the Iranians quietly began supporting the Taliban to bleed the Americans and their allies by raising the cost of the intervention so that they would leave.
Iran has come to see the Taliban not only as the lesser of its enemies but also as a useful proxy force. The more recent introduction of the Islamic State, which carried out a terrorist attack on Iran’s parliament this year, into Afghanistan has only added to the Taliban’s appeal.
In the empty marble halls of the Iranian Embassy in Kabul, Mohammad Reza Bahrami, the ambassador, denied that Iran was supporting the Taliban, and emphasized the more than $400 million Iran has invested to help Afghanistan access ports on the Persian Gulf.
“We are responsible,” he said in an interview last year. “A strong accountable government in Afghanistan has more advantages for strengthening our relations than anything.”
But Iran’s Foreign Ministry and its Islamic Revolutionary Guards Corps act as complementary arms of policy — the first openly sowing economic and cultural influence, and the second aggressively exerting subversive force behind the scenes.
Iran has sent squads of assassins, secretly nurtured spies and infiltrated police ranks and government departments, especially in western provinces, Afghan officials say.
Even NATO’s top commander in Afghanistan at the time, Gen. Sir David Richards of Britain, discovered that Iran had recruited his interpreter, Cpl. Daniel James, a British-Iranian citizen. Corporal James was sentenced to 10 years in prison for sending coded messages to the Iranian military attaché in Kabul during a tour of duty in 2006.
More recently, Iran has moved so aggressively in bulking up the Taliban insurgency that American forces rushed to Farah Province a second time in January to stave off a Taliban attack.
“The Iranian game is very complicated,” said Javed Kohistani, a military analyst based in Kabul.
Having American forces fight long and costly wars that unseated Iran’s primary enemies has served Tehran’s interests just fine. But by now, the Americans and their allies have outlasted their usefulness, and Iran is pursuing a strategy of death by a thousand cuts “to drain them and cost them a lot.”
An Ambitious Expansion
The depth of Iran’s ties to the Taliban burst unexpectedly into view last year. An American drone struck a taxi on a desert road in southwestern Pakistan, killing the driver and his single customer.
The passenger was none other than the leader of the Taliban, Mullah Akhtar Muhammad Mansour. A wanted terrorist with an American bounty on his head who had been on the United Nations sanctions list since before 2001, Mullah Mansour was traveling without guards or weapons, confident and quite at home in Pakistan.
The strike exposed for the second time since the discovery of Osama bin Laden in the Pakistani hill town of Abbottabad the level of Pakistan’s complicity with wanted terrorists. It was the first time the United States had conducted a drone attack in Pakistan’s Baluchistan Province, a longtime sanctuary for the Taliban but until then off limits for American drones because of Pakistani protests.
Yet even more momentous was that Mullah Mansour was returning from a trip to Iran, where he had been meeting Iranian security officials and, through Iran, with Russian officials.
Afghan officials, Western diplomats and security analysts, and a former Taliban commander familiar with Mullah Mansour’s inner circle confirmed details of the meetings.
Both Russia and Iran have acknowledged that they have held meetings with the Taliban but maintain that they are only for information purposes.
That the Taliban leader was personally developing ties with both Iran and Russia signaled a stunning shift in alliance for the fundamentalist Taliban movement, which had always been supported by the Sunni powers among the Arab gulf states and Pakistan.
But times were changing with the American drawdown in Afghanistan, and Mullah Mansour had been seeking to diversify his sources of money and weapons since taking over the Taliban leadership in 2013. He had made 13 trips to Dubai, United Arab Emirates, and one to Bahrain, his passport showed, but also at least two visits to Iran.
Set on expanding the Taliban’s sway in Afghanistan, he was also preparing to negotiate an end to the war, playing all sides on his terms, according to both Afghan officials with close knowledge of the Taliban and the former Taliban commander close to Mullah Mansour’s inner circle.
It was that ambitious expansionism that probably got him killed, they said.
“Mansour was a shrewd politician and businessman and had a broader ambition to widen his appeal to other countries,” said Timor Sharan, a former senior analyst of the International Crisis Group in Afghanistan who has since joined the Afghan government.
Mullah Mansour had been tight with the Iranians since his time in the Taliban government in the 1990s, according to Mr. Kohistani, the military analyst. Their interests, he and other analysts and Afghan officials say, overlapped in opium. Afghanistan is the world’s largest source of the drug, and Iran the main conduit to get it out.
Iran’s border guards have long fought drug traffickers crossing from Afghanistan, but Iran’s Revolutionary Guards and the Taliban have both benefited from the illicit trade, exacting dues from traffickers.
The main purpose of Mullah Mansour’s trips to Iran was tactical coordination, according to Bruce Riedel, a former C.I.A. analyst and fellow at the Brookings Institution in Washington. At the time, in 2016, the Taliban were gearing up for offensives across eight Afghan provinces. Farah was seen as particularly ripe fruit.
Iran facilitated a meeting between Mullah Mansour and Russian officials, Afghan officials said, securing funds and weapons from Moscow for the insurgents.
Mullah Mansour’s cultivation of Iran for weapons was done with the full knowledge of Pakistan, said the former Taliban commander, who did not want to be identified since he had recently defected from the Taliban.
“He convinced the Pakistanis that he wanted to go there and get weapons, but he convinced the Pakistanis that he would not come under their influence and accept their orders,” he said.
Pakistan had also been eager to spread the political and financial burden of supporting the Taliban and had encouraged the Taliban’s ties with Iran, said Haji Agha Lalai, a presidential adviser and the deputy governor of Kandahar Province.
On his last visit, Mullah Mansour traveled to the Iranian capital, Tehran, to meet someone very important — possibly Iran’s supreme leader, Ayatollah Ali Khamenei, said the former Taliban commander, who said he had gleaned the information from members of Mullah Mansour’s inner circle.
Mullah Mansour stayed for a week, also meeting with a senior Russian official in the town of Zahedan, said Mr. Lalai, who spoke with relatives of the Taliban leader.
He was almost certainly negotiating an escalation in Iranian and Russian assistance before his death, Mr. Lalai and other Afghan officials said, pointing to the increase in Iranian support for the Taliban during his leadership and since.
But the meeting with the Russians was apparently a step too far, Afghan officials say. His relations with Iran and Russia had expanded to the point that they threatened Pakistan’s control over the insurgency.
The United States had been aware of Mullah Mansour’s movements, including his ventures into Iran, for some time before the strike and had been sharing information with Pakistan, said Seth G. Jones, associate director at the RAND Corporation. Pakistan had also provided helpful information, he added. “They were partly supportive of targeting Mansour.”
Gen. John Nicholson, the United States commander of coalition forces in Afghanistan, said President Barack Obama had approved the strike after Mullah Mansour failed to join peace talks being organized in Pakistan.
Col. Ahmad Muslem Hayat, a former Afghan military attaché in London, said he believed that the American military had been making a point by striking Mullah Mansour on his return from Iran.
“When they target people like this, they follow them for months,” he said. “It was smart to do it to cast suspicions on Iran. They were trying to create a gap between Iran and the Taliban.”
But if that was the intention, Mr. Lalai said, it has not succeeded, judging by the way the new Taliban leader, Mawlawi Haibatullah Akhundzada, has picked up his predecessor’s work.
“I don’t think the contact is broken,” he said. “Haibatullah is still reaching out to Iran. They are desperately looking for more money if they want to extend the fight.”
Intrigue in ‘Little Iran’
There is no place in Afghanistan where Iran’s influence is more deeply felt than the western city of Herat, nearly in sight of the Iranian border.
Two million Afghans took refuge in Iran during the Soviet invasion in the 1980s. Three million live and work in Iran today. Herat, sometimes called “Little Iran,” is their main gateway between the countries.
People in Herat speak with Iranian accents. Iranian schools, colleges and bookshops line the streets. Women wear the head-to-foot black chador favored in Iran. Shops are full of Iranian sweets and produce.
But even as the city is one of Afghanistan’s most decorous and peaceful, an air of intrigue infuses Herat.
The city is filled with Iranian spies, secret agents and hit squads, local officials say, and it has been plagued by multiple assassinations and kidnappings in recent years. The police say Iran is funding militant groups and criminal gangs. A former mayor says it is sponsoring terrorism.
Iran is constantly working in the shadows. The goal, Afghan officials say, is to stoke and tip local power struggles in its favor, whether through bribery, infiltration or violence.
One day in January, Herat’s counterterrorism police deployed undercover officers to stake out the house of one of their own men. Two strangers on a motorbike seemed to be spying on the house, so secret agents were sent out to spy on the spies.
Within hours, the police had detained the men and blown their cover: They were Iranian assassins, according to the Afghans. The passenger was armed with two pistols.
Forensics tests later found that one of the guns had been used in the murder of an Iranian citizen in Herat 10 months earlier, police officials said.
The two Iranians are still in Afghan custody and have yet to be charged. They have become a source of contention between Iran and Afghanistan.
Iran disowned them, pointing to their Afghan identity cards, but Afghan officials paraded them on television, saying they were carrying false papers and had admitted to being sent by Iran as a hit squad.
The Afghan police say they have arrested 2,000 people in counterterrorism operations in Herat over the last three years. Many of them, they say, are armed insurgents and criminals who reside with their families in Iran and enter Afghanistan to conduct dozens of attacks on police or government officials.
Iran is set on undermining the Afghan government and its security forces, and the entire United States mission, and maintaining leverage over Afghanistan by making it weak and dependent, Afghan officials say.
“We caught a terrorist who killed five people with an I.E.D.,” a senior police officer said, referring to a roadside bomb. “We released a boy who was kidnapped. We defused an I.E.D. in the city.”
Flicking through photographs on his phone, he pointed to one of a man in a mauve shirt. “He was convicted of kidnapping five people.” Much of the kidnapping is criminal, for ransom, but at least some of it is politically motivated, he added.
The 33-year-old, English-speaking Farhad Niayesh, a former mayor of Herat, is even more blunt, and exasperated. He says the Iranians use their consulate in the city as a base for propaganda and “devising terrorist activities.”
“Iran has an important role in terrorist attacks in Herat,” Mr. Niayesh said. “Three or four Iranians were captured. They had a plan against government officials who were not working in their interest.”
Members of Parliament and security officials say Iran bribes local and central government officials to work for it, offering them 10 to 15 Iranian visas per week to give to friends and associates. Afghans visit to conduct business, receive medical care and see family.
The Afghan police have uncovered cases of even deeper infiltration, too. A female member of the Afghan police service was sentenced to death, accused of being a secret Iranian agent, after fatally shooting an American trainer in the Kabul Police Headquarters in 2012.
“Our western neighbor is working very seriously,” said the senior Afghan police official in Herat who requested anonymity because of the nature of his work. “ We have even found heavy artillery to be used against the city.”
Iran is supporting multiple anti-government militant groups in half a dozen western provinces, he said. The Afghan police, despite a lack of resources, are working to dismantle them.
“The same sort of people are still in the city,” he added. “They are doing their work, and we are doing our work.”
Double-Edged Soft Power
Afghans dream of restoring their landlocked, war-torn country to the rich trading center it was in days of old, when caravans carried goods along the Silk Road from China to Europe, and people and ideas traveled along the same route.
If Tehran has its way, the modern Silk Road will once again run across Afghanistan’s western border, and proceed through Iran. At least that is the ambition.
On one side of the Afghan border, India has been building a road through southwestern Afghanistan to allow traders to bypass Pakistan, which has long restricted the transit of Afghan goods.
Tehran’s goal is to join that route on the Iranian side of the border with road and rail links ending at the port of Chabahar on the Persian Gulf.
“We said that Afghanistan would not be landlocked anymore and we would be at Afghanistan’s disposal,” said Mr. Bahrami, the Iranian ambassador in Kabul, stressing that Iran’s contribution to the Afghan road was not stalled even by its economic difficulties under sanctions.
But Iran’s economic leverage comes at a price.
Afghan officials say Iran’s support of the Taliban is aimed in part at disrupting development projects that might threaten its dominance. The Iranian goal, they contend, is to keep Afghanistan supplicant.
The biggest competition is for water, and Afghans have every suspicion that Iran is working to subvert plans in Afghanistan for upstream dams that could threaten its water supply.
Iran has raised the issue of the dams in bilateral meetings, and President Hassan Rouhani recently criticized the projects as damaging to the environment.
With the upheaval of 40 years of coups and wars in Afghanistan, large-scale development plans, like hydroelectric projects, have largely been stalled since the 1970s. Even after international assistance poured into Afghanistan after 2001, internal and external politics often got in the way.
But President Ashraf Ghani, determined to generate economic growth, made a priority of completing the Salma dam in Herat Province, and has ordered work on another dam at Bakhshabad, to irrigate the vast western province of Farah.
In Farah, despite the two calamitous Taliban offensives on the provincial capital in October and January, the Bakhshabad dam is the first thing everyone mentions.
“We don’t want help from nongovernmental organizations or from the government,” said Mohammed Amin, who owns a flourishing vegetable farm, growing cucumbers and tomatoes under rows of plastic greenhouses. “We in Farah don’t want anything. Just Bakhshabad.”
Afghanistan’s lack of irrigation makes it impossible to compete with Iranian produce prices, something Bakhshabad could solve, he said.
The project is still only in the planning stage. But the dam, with its promise of irrigation and hydroelectricity for a population lacking both, is a powerful dream — if Iran does not thwart it.
“The most important issue is water,” Mr. Lalai, the presidential adviser, said of relations with Iran. “Most of our water goes to our neighbors. If we are prosperous, we might give them less.”
Peace or Proxy War?
The death of Mullah Mansour removed Iran’s crucial link to the Taliban. But it has also fractured the Taliban, spurring a number of high-level defections and opening opportunities for others, including Iran, to meddle.
An overwhelming majority of Taliban blame Pakistan for Mullah Mansour’s death. The strike deepened disillusionment with their longtime Pakistani sponsors.
About two dozen Taliban commanders, among them senior leaders who had been close to Mullah Mansour, have since left their former bases in Pakistan.
They have moved quietly into southern Afghanistan, settling back in their home villages, under protection of local Afghan security officials who hope to encourage a larger shift by insurgents to reconcile with the government.
Those with family still in Pakistan live under close surveillance and control by Pakistani intelligence, said the former Taliban commander, who recently abandoned the fight and moved his family into Afghanistan to escape reprisals.
He said he had become increasingly disaffected by Pakistan’s highhanded direction of the war. “We all know this is Pakistan’s war, not Afghanistan’s war,” he said. “Pakistan never wanted Afghanistan to be at peace.”
The question now: Does Iran?
Citing the threat from the Islamic State as an excuse, Iran may choose, with Russian help, to deepen a proxy war in Afghanistan that could undermine an already struggling unity government.
Or it could encourage peace, as it did in the first years after 2001, for the sake of stability on at least one of its borders, prospering with Afghanistan.
For now, Iran and Russia have found common cause similar to their partnership in Syria, senior Afghan officials and others warn.
Emboldened by their experience in Syria, they seem to be building on their partnership to hurt America in Afghanistan, cautioned the political analyst Mr. Sharan.
As American forces draw down in Afghanistan, jockeying for influence over the Taliban is only intensifying.
“Pakistan is helping the Taliban straightforwardly,” said Mr. Jehan, the former Afghan intelligence official who is now governor of Farah. “Russia and Iran are indirectly helping the Taliban. We might come to the point that they interfere overtly.
“I think we should not give them this chance,” he added. “Otherwise, Afghanistan will be given up to the open rivalry of these countries.”
The former Afghan foreign minister, Rangin Dadfar Spanta, warned that the country risked being pulled into the larger struggle between Sunni powers from the Persian Gulf and Shiite Iran.
“Afghanistan should keep out the rivalry of the regional powers,” he said. “We are vulnerable.”
Some officials are optimistic that Iran is not an enemy of Afghanistan, but the outlook is mixed.
“There is a good level of understanding,” Abdullah Abdullah, the Afghan government’s chief executive, said of relations with Iran.
“What we hear is that contacts with the Taliban are to encourage them to pursue peace rather than military activities,” he said.
Mohammad Asif Rahimi, the governor of Herat, warned that if Farah had fallen to the Taliban, the entire western region would have been laid open for the insurgents.
Iran’s meddling has now grown to the extent that it puts the whole country at risk of a Taliban takeover, not just his province, he said.
But it could have been prevented, in the view of Mr. Sharan.
“The fact is that America created this void,” he said. “This vacuum encouraged countries to get involved. The Syria issue gave confidence to Iran and Russia, and now that confidence is playing out in Afghanistan.”
Ruhullah Khapalwak contributed reporting from Kabul, Afghanistan.
A version of this article appears in print on August 6, 2017, on Page A1 of the New York edition with the headline: Iran Flexes in Afghanistan As U.S. Presence Wanes.